يقف الأردن اليوم أمام تحدٍّ استراتيجي يتمثل في إعادة صياغة أسلوب إدارة الدولة، بما يتجاوز الممارسات التقليدية التي أثبتت محدوديتها، نحو نموذج حديث قادر على تحويل الإمكانات المتاحة إلى نتائج ملموسة. التحدي الحقيقي ليس في حجم الموارد ولا في توفر الكفاءات، بل في هيكل التفكير وأساليب العمل التي ما زالت تعتمد على أدوات قديمة لإنتاج حلول لقضايا جديدة، في وقت تتطلب فيه المرحلة نهجًا مختلفًا، جريئًا، ومنفتحًا على الابتكار.
تؤكد الخطابات الملكية المتعاقبة على أن مواجهة تحديات المستقبل لا يمكن أن تتم بعقلية الماضي، وأن المطلوب هو قرارات وإجراءات عملية تتجاوز حدود الخطط المعلنة والزيارات الميدانية، لتصل إلى منظومة إنتاج سياسات متكاملة تُختبر في بيئة فعلية قبل تعميمها، وتُقاس نتائجها وفق معايير أداء واضحة ومؤشرات كمية، لا على أساس الانطباعات أو الشعارات. هذا التحول يقتضي أن يصبح الأردن مختبرًا وطنيًا مفتوحًا للتجربة والتقييم، مع إتاحة مساحة آمنة للفشل الجزئي بما يمنع تكراره على المستوى الوطني.
النهج المقترح يقوم على إعادة هندسة منظومة صنع القرار الحكومي، من خلال الانتقال من النمط القطاعي المغلق إلى نماذج شبكية تكاملية. فبدل أن تعمل الوزارات كوحدات منفصلة، يجري تشكيل فرق عمل عبر-قطاعية تجمع الموارد والخبرات من وزارات ومؤسسات مختلفة لمعالجة ملفات محددة. على سبيل المثال، يتم التعامل مع تحديات المياه من خلال دمج جهود قطاع المياه والزراعة والطاقة ضمن خطة موحدة، أو ربط التعليم بسوق العمل من خلال تكامل أدوار التربية والتعليم والعمل والصناعة. في هذا الإطار، يتغير دور الوزير من مشرف إداري إلى قائد استراتيجي للفريق، يمتلك صلاحيات مباشرة لاتخاذ القرار وتنفيذه.
كما أن إشراك المواطن في صياغة السياسات يصبح عنصرًا جوهريًا في المنظور الجديد. الخطابات الملكية تؤكد أن المواطن هو محور العملية الإصلاحية وغايتها، ما يتطلب الانتقال من علاقة الدولة بالمواطن كمقدّم خدمة لمتلقيها، إلى علاقة شراكة في التشخيص والحل. يتحقق ذلك عبر منصات رقمية متاحة للجميع، تتيح تقديم مقترحات عملية للمشكلات القائمة، وتوفير آلية تصويت شعبي تمنح المقترحات المدعومة فرصة التنفيذ التجريبي السريع، على أن تُقيّم النتائج بشفافية كاملة قبل التوسع في التطبيق. هذا المسار يحوّل طاقة النقد الاجتماعي إلى طاقة ابتكار وإنتاج حلول قابلة للتنفيذ.
على المستوى التشغيلي، يفرض النهج الجديد الانتقال من سياسة الاستجابة للأزمات إلى سياسة الاستباق والوقاية. وهذا يتطلب بناء منظومة رصد مبكر للمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية باستخدام أدوات التحليل المتقدم والبيانات الضخمة، بحيث يمكن التدخل في الوقت المناسب لمعالجة بؤر الخطر. إذا كشفت المؤشرات مثلًا عن ارتفاع متسارع في معدل البطالة بين الشباب في محافظة معينة، فإن التدخل يجب أن يبدأ فورًا ببرامج تشغيل وتدريب موجهة، بدل الانتظار حتى تتحول المشكلة إلى أزمة وطنية.
الشفافية في هذا السياق ليست خيارًا تزيينيًا، بل ركيزة تنفيذية في إدارة الأداء. كل مشروع حكومي في الرؤية الجديدة يمثل عقدًا اجتماعيًا علنيًا، له أهداف محددة، وجداول زمنية معلنة، ومنصة متابعة تفاعلية تتيح لأي مواطن الاطلاع على نسب الإنجاز ومساءلة الجهة المسؤولة بالاسم. هذه الآلية التي طالما دعا إليها جلالة الملك، تعزز الثقة العامة، وتحفّز الأداء، وتمنع الانحرافات قبل وقوعها.
الاستثمار في رأس المال البشري يمثل حجر الزاوية في النهج الجديد. فالأردن، كما تؤكد الرؤية الملكية، يمتلك ثروة بشرية مؤهلة قادرة على الإبداع إذا أُتيحت لها بيئة تمكينية. المطلوب هو تطوير بيئة عمل حكومية تشجع المبادرة وتكافئ الإنجاز، وتفتح المجال أمام الطاقات الشابة للمساهمة المباشرة في صناعة السياسات وتنفيذها. وفي هذا السياق، تتحول الحكومة إلى منصة تحفيز للإبداع الوطني، تستقطب الأفكار من داخل البلاد وخارجها، وتترجمها إلى مشاريع واقعية.
إن التحول من إدارة الروتين إلى صناعة المستقبل يتطلب إرادة سياسية صلبة، وقدرة على تحمل كلفة التغيير، وإيمانًا بأن التجديد ليس ترفًا بل شرط بقاء وتقدم. الأردن يمتلك المقومات الأساسية لهذا التحول: قيادة سياسية تؤمن بضرورة التحديث، مجتمع حيوي يتطلع إلى التغيير، وبنية مؤسسية قابلة لإعادة الهيكلة والتطوير. ما ينقص هو القرار بالانتقال من المألوف المطمئن إلى المبتكر المجهول، ومن رد الفعل إلى المبادرة الاستباقية.
إذا تبنّى الأردن هذا النهج وطبقه بصرامة وشفافية، فإنه قادر على أن يصبح نموذجًا إقليميًا في الإدارة المبتكرة، وأن يبرهن أن الدول ذات الموارد المحدودة يمكن أن تبني قوتها على الكفاءة المؤسسية، وعلى قدرتها في تحويل كل مواطن إلى شريك في صياغة المستقبل. عندها، سيكون الأردن مصدر إلهام لدول تسعى إلى أن تحكم بالمختبر لا بالمكاتب، وأن تصنع مستقبلها بأيدي أبنائها، كما أراده جلالة الملك في رؤيته الإصلاحية الشاملة.