حين تُوزن القلوب بالعوائد، وتُقاس المشاعر بالحسابات
نعيش في زمنٍ صار فيه كلّ شيء يُقاس، ويُحسب، ويُقدّر وفق ميزان المصلحة. لم يعد الإنسان مجرد كائن يُفكر، بل تحوّل إلى آلة تُحاسب… لا من منطلق القيم، بل من منطلق الجدوى. كثير من الناس باتوا يتعاملون مع الحياة وكأنها بورصة؛ يبيعون فيها مشاعرهم، ويشترون فقط ما يخدم مصالحهم، لا ما يُشبه أرواحهم.
في هذا الزمن، لم يعد “الإنسان الاقتصادي” نموذجًا افتراضيًا يُدرّس في كتب الاقتصاد، بل تحوّل إلى واقع يومي نحياه، نراه، ونكاد – دون أن نشعر – نتحوّل إليه.
ومع دخولنا عصر التكنولوجيا الفائقة، والذكاء الاصطناعي “التوليدي” و”التوكيلي”، وتنقيب وتحليل البيانات الضخمة، أصبح الإنسان أكثر من أي وقت مضى محاطًا بالمنصات، والتطبيقات، والخيارات اللحظية، والمقارنات الفورية. في كل لحظة، هناك توصية تُقترَح، إعلان موجَّه، عرض خاص، أو خيار يُقدَّم على طبق رقمي مُصمَّم بدقة ليتوافق مع سلوكك واهتماماتك. لم يعد الإنسان يبحث عن الشيء… بل صار الشيء هو من يبحث عنه ويعرض نفسه عليه في اللحظة المثلى. وبينما كانت الآلة يومًا أداة في يد الإنسان، أصبحت اليوم شريكًا في اتخاذ القرار… وأحيانًا بديلًا عنه.
تحت تأثير هذا الواقع، أصبح الإنسان يُفاضل بين الناس كما يُفاضل بين سلعتين، أو وجهتي سفر، أو هاتفين ذكيين. فانزلقت إنسانيته تدريجيًا إلى منطقة باردة من المنطق المجرد والحسابات الدقيقة. صارت الآلات تُرشد قراراتنا، وتُعلّمنا كيف نختار الأرخص، والأسرع، والأكثر فائدة. وأصبحنا، دون أن ندري، نحاكيها: نُقيّم علاقاتنا، وصداقاتنا، وحتى مشاعرنا بالمنطق البارد نفسه.
الذكاء الاصطناعي لا يعرف العاطفة. لكن هل علينا نحن أن نُقلّده؟ هل يجوز لنا أن نُصبح نسخًا من خوارزميات لا ترى إلا “الأفضل”؟ من نحبّه، من نزوره، من نساعده، من نردّ عليه… صار كل شيء مشروطًا بسؤال واحد: “شو بستفيد؟” وإذا لم نجد مكسبًا مباشرًا، ندير ظهورنا، حتى لو كان الطرف الآخر يُحبّنا بصدق. أصبحت “النية الطيبة” تهمة، والوفاء قيدًا، والعطاء دون مقابل يُنظر إليه كضعف. كأننا دخلنا سوقًا ضخمة للعلاقات، كل طرف يُسوّق نفسه كمنتج، وكل تواصل مشروط بالعائد.
والأخطر أن هذا المنطق تسلّل إلى الضمير نفسه. فأصبح البعض يُقيّم القضايا الأخلاقية والإنسانية وفق الربح السياسي أو التسويقي أو الشعبي… لا وفق القيم أو العدالة. صار السؤال: “هل تنفعني هذه القضية؟” بدل أن يكون: “هل هذه القضية عادلة؟” (وأنا لا أقصد أحدًا بعينه… حاشا لله، لكنّي أشير إلى منطقٍ يتسلّل ويتوسّع بصمت.)
النتيجة؟ ضياع المعايير، وانهيار الصداقات، وتفكك المجتمعات من الداخل. فالمصلحة، وحدها، لا تُقيم وطنًا… ولا تُصنع بها حضارة.
ورغم هذا الركام، ما زال هناك من يُحبّ بصمت، ويُعطي من قلبه، ويتصرف من ضميره. هؤلاء لا يملكون خوارزميات، لكنهم يملكون قلوبًا حيّة. قد يكونون قلّة… لكنهم نور لا يُطفأ. نعم، نحن في عصر السرعة، والبيانات، والذكاء الاصطناعي… لكننا ما زلنا بشرًا. وما لم نحافظ على إنسانيتنا، سنستيقظ يومًا لنكتشف أننا فقدنا أنفسنا… ونحن نظن أننا أصبحنا “أذكى”.
بيني وبينكم… في خلوتي بقرية “جُبّه”، أو وأنا أشرب القهوة مع صاحبي بوسط عمّان، أو حتى وأنا أقرأ بوست من ابن الكرك، أو الطفيلة، أو جرش… بشعر إنّه لِسّا في ناس بتسأل: “كيفك؟” مش عشان مصلحة، بل عشان القلب. ولسّا في ناس بتوقف معك مش لأنك مهم، بل لأنك إنسان. فلا تخلّي التكنولوجيا تاخذك من حالك. ضَلّك إنسان… مش آلة بوجه بشري.