رغم أن البريد الأردني كان طوال عقود عنوانا للعراقة ودورا وطنيا حاضرا في تفاصيل حياة الأردنيين، إلا أن هذه المؤسسة العريقة وصلت مع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين إلى حافة الانهيار، بخسائر متراكمة تجاوزت 30 مليون دينار عام 2021، أي ما يعادل 216 % من رأس مالها، لتصبح مهددة بالإفلاس والخروج من السوق، غير أن عام 2023 حمل انعطافة استثنائية، حين قادت جهود حكومية حثيثة، بمتابعة مباشرة من رئيس الوزراء السابق الدكتور بشر الخصاونة، عملية إنقاذ دقيقة لم يتحدث عنها أحد، وأغلقت باب بيع المؤسسة في صفقة مثيرة للجدل “والشبهات” آنذاك، ورسمت ملامح مسار جديد بقيادة وزير الدولة الأسبق سامي الداوود رئيسا لمجلس الإدارة، وتعيين هنادي الطيب مديرة عامة في أواخر 2022، لتكون أول سيدة تتسلم هذا الموقع الوطني الحساس.
منذ اللحظة الأولى، وضعت الإدارة الجديدة خطة إصلاحية شاملة، متسقة مع رؤية التحديث الاقتصادي، وبدأت العمل بهدوء ووضوح على ضبط الأداء ومراجعة التعيينات وضبط الإنفاق وتصويب المخالفات التي أشار إليها ديوان المحاسبة.
ومع توفر إرادة حقيقية للتغيير، أخذ البريد يتحول تدريجيا إلى ذراع لوجستية تدعم الدوائر الرسمية، بينما جرى تجديد عقد الأداء السنوي مع وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة، لتوسيع نطاق الخدمات الحكومية عبر شبكة البريد المنتشرة في كل محافظات المملكة، ليصبح البريد أكثر قربا من المواطن وأكثر التصاقا بتفاصيله اليومية.
ولأن التغيير الحقيقي لا يكتمل بدون بناء الإنسان، بادرت الإدارة إلى إنشاء أكاديمية بريدية متخصصة، هي الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، تقدم برامج تدريب مجانية للراغبين في العمل بالبريد وقطاع التوصيل، رافعة كفاءة الكوادر بضخ طاقات شبابية جديدة في كل مفاصل العمل، ومع هذه الروح، تغيرت ثقافة المؤسسة من الداخل؛ وبات التركيز على جودة الخدمة ورضا العملاء، وتحولت بيئة العمل إلى مساحة احترافية وانفتاح على التطوير والابتكار، بما يتناسب تماما مع زمن تكنولوجيا المعلومات.
ثمار هذه التحولات كانت ملموسة على الواقع، في سرعة الخدمة ودقتها، خصوصا مع إطلاق المركز الموحد للتجارة الإلكترونية بالتعاون مع دائرة الجمارك، وهي خطوة ريادية جعلت الأردن منصة إقليمية للتخليص السريع على طرود التجارة الإلكترونية وفق أرفع المعايير العالمية، ومع إنشاء مركز تبادل دولي ومستودعات حديثة تطابق المواصفات الدولية، فقد تعززت تنافسية المملكة كمحور لوجستي إقليمي قادر على خدمة الأسواق المجاورة بكفاءة عالية.
وعلى الصعيد المالي والحديث بتفاصيله يحتاج تقارير صحفية وتحقيقات وازنة للإحاطة به، فلم يتوقف الأمر عند وقف نزيف الخسائر، بل بدأت الشركة بتسديد جزء من مديونيتها، فبحلول 2024 تم تخفيض الديون بحوالي 9 ملايين دينار وتقليص الخسائر بأكثر من 4 ملايين دينار، ضمن خطة طموحة لتصفية الديون كليا خلال خمس سنوات، مع توجه للتوسع في الخدمات الرقمية وبناء شراكات فاعلة مع القطاع الخاص لتعزيز الإيرادات.
شخصيا، لا أستطيع أن أخفي متعتي في زيارة مركز البريد الرئيس في المقابلين خصوصا مع ضيوف أحب أن أصحبهم إليه، حيث المتحف الصغير الذي يروي حكاية الدولة الأردنية بلغة أنيقة وموثقة، متحف غني بالقصص والوثائق، يعكس ارتباط البريد العميق بتاريخ الدولة ومسيرتها، ويقف شاهدا على رحلة طويلة ومثيرة في العمل البريدي، وهي رحلة تختزل معنى السيادة الوطنية.