تشهد المنطقة العربية، وتحديدًا الخليج، تحركات غير مسبوقة تحمل في طياتها ملامح شرق أوسط جديد تُعاد فيه صياغة التحالفات وتُرسم فيه خرائط النفوذ من جديد، زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات، وما نتج عنها من اتفاقيات عملاقة، لم تكن مجرد جولة بروتوكولية بل جاءت كمقدمة لتحول جذري يعيد تشكيل ملامح الإقليم برمّته.
الرسائل التي حملها ترامب في جولته كانت واضحة في مضمونها وإن تنوعت في أدواتها، أبرزها أن واشنطن قررت العودة القوية إلى المنطقة لكن عبر الشراكة لا عبر السيطرة، وأن زمام المبادرة انتقل إلى العواصم الخليجية التي باتت تقود التحولات بدلًا من انتظار إملاءاتها، وأن رسم المصالح الجديدة بات يتطلب تجاوز عقلية الحروب المفتوحة نحو عقلانية النفوذ المستدام.
في السعودية، تم الإعلان عن رفع العقوبات عن سوريا بناءً على تفاهم مباشر بين ترامب وولي العهد السعودي، في خطوة عكست عمق التحول في النظرة الأمريكية للنظام السوري الجديد، حيث بات يُنظر إليه كجزء محتمل من المعادلة لا خصم دائم، هذه الزيارة تُوّجت باتفاقيات ضخمة في مجالات الدفاع والطاقة والاستثمار، أعادت تصنيف الرياض كحليف استراتيجي من الطراز الأول.
أما في قطر، فقد استكمل الجانبان الأمريكي والقطري بلورة شراكة أمنية واقتصادية متقدمة، شملت ملفات حيوية من بينها مفاوضات التهدئة في غزة، وملف الطاقة، والدور الإقليمي القطري كوسيط تفاوضي فعال في الحروب العالمية والمحلية واهمها الملف الإيراني، وتأكيد على استمرار وجود اكبر القواعد العسكرية.
في الإمارات، حتماً ستتركز المحادثات على التكنولوجيا المتقدمة والدفاع، خصوصًا في مجالات الذكاء الاصطناعي والتصنيع العسكري، بما يعزز موقع الإمارات كحاضنة إقليمية للتقنيات السيادية الجديدة، في وقت باتت استثمارات ترامب في الإمارات قد حققت تقارباً كبيراً وغير مسبوق..
وسط هذه التحولات برزت سوريا من جديد، لكن ليس من بوابة روسيا أو إيران، بل عبر الخليج. اللقاء المفاجئ بين ترامب والرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في الرياض حمل عنوانًا صريحًا: إعادة دمج سوريا في الإقليم مقابل تخليها عن الارتباط المحوري بطهران والتطبيع مع إسرئيل.
الاستراتيجية الأميركية الخليجية باتت تعتبر أن ترك سوريا رهينة للتدخلات الخارجية لم يعد مقبولًا، ولهذا فُتحت أبواب الإعمار والاستثمار أمامها بشرط وضوح التوجهات السياسية، في واحدة من أكبر صفقات إعادة التأهيل الإقليمي لدولة عربية منذ عقود.
أما إيران، فالمعادلة معها لم تتغير من حيث المضمون وإن تغيّرت في الأسلوب، المفاوضات النووية لا تزال جارية، لكن واشنطن عادت لتطبيق ضغوط محسوبة دون التورط في صدام مباشر، الهدف لم يعد إسقاط النظام او بالمواجهة المباشرة، بل احتواؤه وتحجيم نفوذه، مع رسالة واضحة: لا تصنيع نووي والتخلي عنه مقابل التحول عن المواقف ضدها، ولا ازدهار دون تخلي كامل للدور الإيراني في العراق ولبنان واليمن، إنها سياسة “الضغط الذكي” التي تراهن على الوقت والتفاهمات المتدرجة بدل الحسم العسكري.
لبنان، كما في كل التحولات، هو مرآة الصراع والتوازن، فبين أزمته الاقتصادية المشتعلة وغياب الدولة الفاعلة، أصبح أكثر انكشافًا أمام الضغوط الدولية التي تطالب بحكومة إصلاحية وانتخابات رئاسية تقطع الطريق على سلاح حزب الله المشروط بإن يكون بيد الدولة، وتعيد القرار السيادي للدولة. الخليج يسعى إلى هندسة حل لبناني لا بالتصعيد بل بتغيير المعادلة من الداخل، حتى يصبح السلاح خارج اللعبة لا عبر المواجهة بل بإعادة صياغة الإجماع الوطني.
تركيا بدورها تتهيأ للعب دور محوري يتجاوز حدودها الجغرافية، الحديث عن قمة محتملة بين زيلينسكي وبوتين في أنقرة لا يشير فقط إلى وساطة سياسية بل إلى أن أنقرة باتت تمثّل مفصلًا بين أزمات أوروبا والشرق الأوسط، ما يمنحها موقعًا متقدمًا في الخريطة الجديدة التي تُرسم للمنطقة وهي الان في غمرة دمج الأكراد بعد القاء السلاح والتخلي عن المواجهة ..
في هذا المشهد، تحضر قطر كغرفة عمليات تفاوضية بامتياز. استضافتها للوفدين الفلسطيني والإسرائيلي بالتنسيق مع الأميركيين يعكس عمق الثقة الدولية في قدرتها على هندسة المواقف، إلا أن التفاوض لا يزال رهين المراوغة الإسرائيلية، إذ تم تقديم مسودة نهائية للتهدئة، لكن ما يُعرقل التقدم الحقيقي هو تعنت حكومة نتنياهو، التي ترفض أي اتفاق لا يتضمن استسلامًا كاملًا من حركة حماس، بما يشمل إلقاء السلاح ومغادرة القادة من غزة، وهي شروط ترفضها الحركة بالمطلق وتعتبرها إملاءات لا تفاهمات.
غزة أصبحت خط التماس بين من يريد إنهاء الحرب عبر حلول عملية، وبين من يصر على استمرارها لتحقيق مكاسب سياسية وشخصية، نتنياهو يدرك أن تهدئة شاملة ضمن تفاهمات خليجية أميركية تعني تقليص دور إسرائيل التقليدي، وتضعه أمام واقع جديد يفقد فيه ورقة غزة كورقة ضغط داخلية وخارجية، لهذا يصر على التعطيل، رافضًا حتى مجرد الإشارة إلى وقف إطلاق النار ما لم يتحقق نزع السلاح بالكامل، وهو ما يكشف أن الحرب بالنسبة له وسيلة بقاء سياسي لا خيار أمني.
لأول مرة منذ عقود، يغيب التنسيق العلني بين واشنطن وتل أبيب خلال جولة أميركية بهذا الحجم، لم يزر ترامب إسرائيل (حتى اللحظة)، ولم يأتِ على ذكرها في خطاباته، وهو ما يُفهم كإشارة صريحة إلى فتور متزايد في العلاقات، تجاهل تل أبيب يعكس تراجع وزنها الاستراتيجي في حسابات البيت الأبيض، وتنامي الرغبة في تهميش دورها كشرطي للمنطقة، خاصة مع تمسكها بخيارات القوة على حساب منطق الشراكة.
نتنياهو لم يعد يحظى بالغطاء الكامل من واشنطن، بل يواجه نقدًا ضمنيًا، وتجاهلًا متعمدًا، يزيد من عزلته السياسية، ويكشف أن الشرق الأوسط يُعاد تشكيله، دون الحاجة إلى موافقة إسرائيلية.
في المقابل، تطرح التطورات الأخيرة سؤالًا كبيرًا: هل ما نشهده تحول ظرفي أم تغير جذري؟ الواقع يقول إننا أمام شرق أوسط جديد يُصاغ من الداخل العربي بثقل أمريكي وتقارب اقتصادي وسياسي لا سابق له، بثلاثي خليجي يتصدر المشهد بسياسات فاعلة ورؤية اقتصادية طموحة، وبرعاية أميركية تسعى إلى تثبيت الاستقرار عبر أدوات الربح والنفوذ لا عبر الغزو والهيمنة، وبانفتاح دول محور كتركيا وسوريا نحو مساحات تفاهم أوسع، وبإعادة ضبط لموقع إيران في المعادلة الإقليمية من دون استهداف مباشر.
وسط هذا الحراك الإقليمي، لا يمكن تجاهل دور الأردن ومصر، فهما ليسا مراقبين على هامش المشهد، بل يشكّلان عمقًا استراتيجيًا وجغرافيًا لا غنى عنه.
الأردن، الذي يمتلك أطول حدود مع فلسطين ( الضفة ، وإسرائيل) ، يمثل صمّام الأمان للضفة الغربية، ويضطلع بدور محوري في ملف القدس من خلال الوصاية الهاشمية ، استقراره الداخلي ليس مسألة محلية، بل عنصر حاسم في منع تفكك الإقليم ، كما يواجه محاولات إسرائيلية مقلقة لفرض واقع ديمغرافي جديد عبر التهجير المعلن والصامت الذي قوبل برفض صارم حطم كل مخططات نتنياهو وترامب في موقف حاسم وقوي رسمياً وشعبياً ، اما سوريا فهي الحد العربي الاطول مع الأردن فالأردن صمام استقرار سوريا وعمقها العربي الاستراتيجي وبوابتها نحو دول الخليج .
أما مصر، فهي البوابة الجنوبية لغزة، والحاجز الحقيقي أمام أي محاولات لتفريغ القطاع من سكانه ، موقفها الثابت الرافض للتهجير يجعل منها طرفًا أساسيًا في أي تسوية ، ولولا ثقل القاهرة الإقليمي، لما أمكن فرض خطوط حمراء على مخططات نتنياهو.
في هذا الإطار لا يمكن بأي حال من الاحوال تجاهل ادوار الأردن ومصر مهما كان هناك تقارب او اتفاقيات او استثمارات لأنهما في عين التحول وهما اللذان يحركا المشهد السياسي وهما صماما التحول والاستقرار والازدهار والتطور والتحديث .
ومع هذا التحول، لا يمكن تجاهل أن القضية الفلسطينية لا تزال في قلب الحدث ، فهي ليست مجرد ملف عالق بل هي مفتاح الحلول، ومحرار صدقية هذا التغيير ، فالتطبيع عبر اتفاقيات أبراهام لم يعد مغريًا كما كان، خاصة في ظل حكومة إسرائيلية ترفض حتى الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، وتصر على فرض السلام بالقوة والسيطرة. ولهذا فإن أي تغيير حقيقي لن يُقاس بحجم الاتفاقيات، بل بقدرته على فرض مسار عادل للقضية الفلسطينية، أو على الأقل فتح نافذة حقيقية للحل.
الشرق الأوسط بات ساحة تنافس جديدة بين واشنطن ومنافسيها كالصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، لكن ما تكسبه واشنطن اليوم هو نتيجة تسليمها بدور الخليج القيادي في رسم المصالح الإقليمية، وتحولها من الوصاية إلى الشراكة، وهو ما لم يفعله أي رئيس أميركي منذ عقود.
إسرائيل ترفض الانضمام إلى هذا المسار المتقدم، وتتمسك بعقيدة القوة كأداة وحيدة للفهم والتفاوض. لكنها، بهذا الموقف، تضع نفسها على طريق العزلة، في حين تتقدم العواصم العربية نحو صياغة نظام جديد للمنطقة، أقل صخبًا وأكثر فعالية.
وقد لا تظهر نتائج هذا التحول غدًا، لكنه بدأ فعليًا، وما كان يبدو حلمًا أصبح الآن واقعًا يتشكل. الشرق الأوسط في ربيع 2025 ليس كما كان في أيار 2024، وقد لا يعود كما كان أبدًا .