Home اختيارات رئيس التحريرالشواخص المرورية وحوادث الطرق: تغييب الهندسة والمساءلة 7

الشواخص المرورية وحوادث الطرق: تغييب الهندسة والمساءلة 7

د. نضال القطامين

by editor
21K views
A+A-
Reset

في عام 2024، سُجّل في الأردن 11,950 حادثًا نتج عنها إصابات بشرية. ومن خلال مراجعة التقرير الرسمي، تبيّن أن 223 موقعًا فقط احتوت على عيوب في الطريق ساهمت في وقوع الحوادث، ومن بينها، جرى تصنيف غياب الشواخص المرورية كمسبب مباشر في 12 موقعًا فقط. هذه النسبة المتدنية لا تعكس الواقع ولا تعبّر عن حقيقة ما يشهده الشارع الأردني من فوضى تنظيمية وهندسية. هي نتيجة مباشرة لفشل في تحليل الحوادث، حيث لا يتم توثيق عيوب الطريق مثل الشواخص أو العلامات الأرضية…الخ بشكل علمي، ولا تقييم أثرها الفعلي على الحوادث، بل تُحمّل المسؤولية كاملة للسائق، ونعود للمقولة المغلوطة بان ٩٥٪؜ من اسباب الحوادث سببها الإنسان!!

الشواخص المرورية ليست زينة أو ديكورًا، بل أداة أساسية في تنظيم السلامة المرورية. وفق الأدلة الدولية مثل TSRGD، DMRB، MUTCD، تُصنّف إلى تنظيمية وتحذيرية وتوجيهية، بمواصفات دقيقة: حجم يتناسب مع نوع الطريق سواء رئيسي او فرعي او ثانوي او زراعي وسرعته، ارتفاع لا يقل عن 2.1 متر داخل المدن و2.3 متر خارجها، زاوية تثبيت 93 درجة، مواد عاكسة من فئة RA2 أو RA3، موقع أفقي مدروس او عامودي، ومسافة تسبق نقطة اتخاذ القرار وفق السرعة. هذه ليست اختيارات مرنة، بل معايير إلزامية ضمن كودات تصميم عالمية. المطلوب أن تكون الشواخص موحدة، واضحة، مستمرة على طول الطريق لتقود السائق بسلاسة نحو وجهته وتحذّره مسبقًا من المخاطر، لا أن تكون مفاجآت معزولة أو إشارات يتيمة تُفقد معناها فور تجاوزها.

الواقع في الأردن مختلف تمامًا. ما نراه هو عشوائية كاملة: شواخص خلف أشجار، فوق أعمدة كهرباء، وسط الأرصفة، في منتصف الطريق، بحواف حادة، بارتفاعات متفاوتة وخطيرة، بألوان وخطوط غير موحدة، وبعضها متآكل أو ممسوح أو مكتوب بخط غير مقروء. في الدواوير، مثل دواوير مدينة إربد مثلا، لا يعرف السائق أي مخرج يسلك، ولا أي وجهة يقصد. لا توجد شواخص توجيه للمستشفيات أو المؤسسات الرسمية او الخاصة او المعالم السياحية أو القرى إلا ما ندر. وإن وُجدت شاخصة، فهي لا تُتبع بتسلسل يكتمل معه المسار. وإذا كانت هذه حال عروس الشمال، فماذا عن المدن التي ليست عرايس؟

خارج المدن، الطرق السريعة الأخطر والريفية لا تقل سوءًا. لا شواخص تحذيرية عند المنحدرات والمنعطفات والتقاطعات، ولا علامات واضحة لعبور المشاة، ولا أي تقييم للانعكاسية الليلية، وان وجدت احيانا، تكون عشوائية. لا توجد جهة مسؤولة عن المراجعة أو الفحص الدوري أو حتى تحديث البيانات. والدهانات الأرضية شبه غائبة، والأرصفة منهارة أو مستغلة أو بلا وظيفة، والمطبات عشوائية، والمناهل والمصارف إما مرتفعة أو مكشوفة، وسطح الطريق في حالة تآكل دائم وحفر.

ومع هذا كله، يُقال رسميًا إن الطريق مسؤولة عن 1.8% فقط من الحوادث. هذه مهزلة توثيق وتحليل، تُعفي الدولة من مسؤوليتها بالكامل وتُبقي الباب مفتوحًا لتحميل الإنسان وحده كل الذنب.

الجهات المسؤولة عن الطرق مرتاحة لهذه النتيجة، فهي لا تضعها تحت أي ضغط، ولا تُلزمها بأي تطوير أو مساءلة. لكنها في الحقيقة مسؤولة بالدرجة الأولى، لأن غياب الهندسة لا يعود إلى قلة الموارد، بل إلى غياب الفهم وغياب القرار، وإلى غياب مهندسين وفنيين متخصصين وإدارات تدرك واجباتها.

لهذا، لم يعد مقبولًا الصمت المهني ولا الاكتفاء بالتحليل الفني. المطلوب اليوم تدخل المحامين ومكاتب المرافعات، لتوسيع مفهوم المسؤولية، وعدم قصره على السائقين.

يجب أن تُحمّل الجهات المالكة والمشغلة للطرق جزءًا من المسؤولية القانونية، وأن يُفتح ملف الإهمال الهندسي كعنصر جوهري في الحوادث. كما أن المطلوب بشكل عاجل استحداث إدارات وطنية متخصصة في هندسة النقل والمرور والسلامة المرورية، تضم مهندسين متخصصين ذوي كفاءة، وتُمنح صلاحيات فنية حقيقية لضبط الإيقاع ومساءلة المقصّرين وإصلاح الخلل المستمر.

التوصيات واضحة:
١) إنشاء قاعدة بيانات وطنية رقمية للشواخص المرورية تُدار مركزيًا وتُحدّث دوريًا.

٢) توحيد المواصفات الفنية والتصميمية للشواخص ضمن قانون وطني مستند إلى الأكواد والمعايير الدولية.

٣) فرض تقييم هندسي دوري يشمل فاعلية الشواخص ووضوحها وموقعها وانعكاسيتها.

٤) تعديل تقارير الحوادث لتُدرج دور الطريق والبنية التحتية بوضوح كجزء من تحليل الأسباب، لا أن يُختزل كل شيء في العامل البشري.

الخلاصة أن ما نعيشه اليوم ليس مجرد عيوب تنفيذ، بل انهيار مفاهيمي وإداري في فهم الطريق كمنظومة متكاملة. غياب الشواخص وتهالك الطريق جريمة هندسية، وتجاهلها جريمة مؤسسية، وتحميل السائق وحده المسؤولية تضليل اجتماعي. ما لم يبدأ إصلاح السلامة المرورية من الهندسة والمساءلة، لن تكون الطرق وسيلة للحياة، بل مصدرًا مستمرًا للنزيف….

You may also like

Leave a Comment

اخر الاخبار

الاكثر قراءة

جميع الحقوق محفوظة العموم نيوز

Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00