تواصل الصناعة الأردنية تعزيز موقعها في الاقتصاد الوطني، ليس فقط من خلال الإنتاج والتشغيل، بل أيضاً عبر دورها المالي والاستثماري. فقد تصدّر القطاع الصناعي النمو في بورصة عمان بنسبة 42 بالمئة، مستحوذاً على 40 بالمئة من القيمة السوقية للشركات المدرجة، وهي مؤشرات تعكس ثقة المستثمرين المحليين والأجانب في استدامة أرباح الصناعة الأردنية، وتجعلها أحد الأعمدة الرئيسية لسوق رأس المال في المملكة.
وتتجسد مركزية القطاع الصناعي في المضي بتنفيذ مشاريع استراتيجية لخفض كلف الإنتاج وتعزيز التنافسية. فقد باشرت الحكومة إيصال الغاز الطبيعي إلى خمس مدن صناعية ضمن خطة تغطي جميع المدن خلال السنوات الثلاث المقبلة، وهو مشروع من شأنه تقليص كلف الطاقة، أحد أهم التحديات التي تواجه الصناعة. كما ضخ صندوق دعم الصناعة تمويلاً تجاوز 65 مليون دينار استفادت منه 630 شركة صناعية، ما ساهم في توسيع الإنتاج والأسواق والتشغيل. وكم ستكون القفزة نوعية ومختلفة لو تحولت هذه الصناديق إلى بنك إنمائي مخصص لدعم الصادرات والصناعة.
لكن التحول الأهم في الصناعة الأردنية لا يقف عند حدود الدعم أو التوسع الكمي، بل يمتد إلى البنية التقنية. فقد ارتفعت مساهمة الصناعات متوسطة وعالية التقنية من 10 إلى نحو 25 بالمئة من القيمة المضافة خلال العقدين الماضيين، ما يشير إلى تحول جوهري نحو إنتاج ذي محتوى تكنولوجي مرتفع. هذا التطور يحفّز على المزيد من الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والتصنيع الدائري، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية التحديث الاقتصادي لخفض الاعتماد على الطاقة المستوردة بنسبة 20 بالمئة بحلول عام 2030.
كما أن التوسع في الأسواق الخارجية يعكس التغير في البنية الإنتاجية. فالصادرات الصناعية الأردنية تصل اليوم إلى أكثر من 150 سوقاً حول العالم، بعد نمو بنسبة 39 بالمئة منذ جائحة كورونا. هذا الانتشار، إذا ما تم توجيهه بذكاء، سيعزز وجود المنتج الأردني في الأسواق الآسيوية والأفريقية وأمريكا اللاتينية، ويقلل الاعتماد على الأسواق التقليدية. وهنا يبرز دور تنويع المنتج وتطوير الهوية الصناعية لتصبح عبارة “صُنع في الأردن” دليلاً على الجودة والتنافسية.
ولا يمكن تجاهل الأثر الكلي لهذا التحول على الاقتصاد الوطني. فالصناعة تسجّل اليوم أعلى مساهمة في الناتج المحلي الإجمالي بين دول المنطقة بنسبة تقارب 25 بالمئة، وتساهم بـ40 بالمئة من النمو الكلي. كما بلغ عدد المنشآت الصناعية نحو 18 ألف منشأة، ما يتيح توزيعاً جغرافياً أكثر توازناً للنشاط الاقتصادي. ومع ما يمتلكه الأردن من رأس مال بشري نوعي ومرتبة عالمية متقدمة في العمالة الماهرة، فإن التحول نحو اقتصاد معرفي متكامل بات في متناول اليد.
كل هذه المؤشرات تضع الصناعة الأردنية في موقع استراتيجي على خريطة التحديث الاقتصادي، فهي الرابط بين الإصلاح والنمو والعدالة الاجتماعية. ومع استمرار التحول نحو التصنيع الذكي والطاقة النظيفة، يمكن للصناعة أن تكون قصة نجاح وطنية حقيقية تجسد رؤية التحديث الاقتصادي في مئوية الدولة الثانية.
قسم الاقتصاد – الجامعة الأردنية


