الطبقة الوسطى في أي مجتمع ليست مجرد تصنيف اقتصادي، بل هي الدرع الذي يحمي التوازن الاجتماعي والسياسي، وهي الفئة التي تعيد توزيع القيم وتضمن استقرار العلاقات بين مختلف الشرائح، وتنتج الكفاءات التي تدير المؤسسات وتعزز روح الاعتدال. في الأردن، كانت هذه الطبقة لعقود طويلة بمثابة صمّام أمان، إذ قدّمت المعلمين الذين علّموا الأجيال، والأطباء الذين اعتنوا بصحة المواطنين، والموظفين الذين حافظوا على انتظام الدولة ومؤسساتها.
غير أن السنوات الأخيرة شهدت ضغوطاً متزايدة تركت آثارها العميقة على هذه الفئة، وكان من انعكاساتها الواضحة تنامي ظاهرة العنف المجتمعي. فكلما ضعفت الطبقة الوسطى، زاد الإحباط لدى الشباب وتراجعت قيم الحوار والتسامح، وارتفعت وتيرة اللجوء إلى العنف كوسيلة للتعبير عن الغضب أو الدفاع عن الحقوق. وما كان في السابق مجرد مشكلات فردية معزولة بات اليوم أقرب إلى ظاهرة اجتماعية تشغل الرأي العام وتستنزف الجهود الرسمية والمجتمعية.
العوامل الاقتصادية التي أضعفت هذه الطبقة لعبت دوراً أساسياً في تكوين بيئة خصبة لهذا الاحتقان. ارتفاع تكاليف المعيشة وتزايد أعباء التعليم الجامعي وضغط الضرائب غير المباشرة وتدني القدرة الشرائية كلها عوامل تراكمت وأضعفت ثقة المواطن بقدرته على تحقيق الاستقرار لعائلته. ومع تآكل هذه الثقة، يصبح العنف أكثر حضوراً في الحياة اليومية. فالمشاجرات الطلابية التي تتوسع إلى مواجهات، والخلافات العشائرية التي تنفجر بسرعة، والحوادث الفردية التي تتطور بشكل مبالغ فيه، جميعها مؤشرات على أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية للطبقة الوسطى تُترجم إلى سلوكيات عنيفة تتحدى سلطة القانون وتضعف قيم التماسك.
في المقابل، لا يمكن إنكار أن الدولة بذلت جهوداً مهمة لمواجهة هذه التحديات، فقد أطلقت رؤية التحديث الاقتصادي، وقدمت برامج دعم مباشر، وسعت إلى توسيع فرص التعليم للشباب. هذه خطوات إيجابية كان لها أثر ملموس في التخفيف من حدة بعض الأزمات. غير أن السؤال الجوهري يبقى مطروحاً: لماذا لم تمنع هذه السياسات تراجع مكانة الطبقة الوسطى ولم تحد من مظاهر العنف المتصاعد؟ الإجابة تكمن في أن هذه السياسات لا تزال مجزأة ومؤقتة، في حين أن التحديات ذات طبيعة بنيوية أعمق. فالضرائب غير المباشرة ما زالت تستنزف دخول الأسر، والرواتب لم تلحق بارتفاع الأسعار، والفرص المتاحة أمام الشباب محدودة، الأمر الذي يجعل الجهود أشبه بمسكّنات لا توقف المرض من الانتشار.
التعامل مع ظاهرة العنف المجتمعي لا يمكن أن يقتصر على الحلول الأمنية أو حملات التوعية، لأن ذلك يعالج الأعراض ولا يمس الجذور. الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الشامل هو السبيل الأنجع لإعادة التوازن. تحسين التعليم الحكومي يمثل مدخلاً أساسياً لتخفيف الأعباء عن الأسر ورفع مستوى الكفاءات. توسيع مظلة التأمين الصحي وتطويرها يعيد الطمأنينة إلى الموظف البسيط، بينما يشكل تعديل النظام الضريبي نحو مزيد من العدالة الاجتماعية خطوة ضرورية لتخفيف الضغط عن العائلات. وفي الوقت نفسه، فإن دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وفتح مجالات أوسع أمام الشباب للعمل والإبداع سيقلل من الهجرة للخارج ويعزز ثقة الجيل الجديد بوطنه ومستقبله.
هذه الإجراءات ليست مجرد إصلاحات اقتصادية، بل أدوات وقاية اجتماعية تحد من أسباب العنف وتحاصر جذوره. فعندما يشعر المواطن أن حقوقه الأساسية مصونة وأن مستقبله ممكن التحقيق داخل وطنه، يقلّ الميل إلى التعبير عن الإحباط بأساليب عنيفة. وحين ترى الأسرة أن الدولة توفر لها حماية عادلة، تستعيد ثقتها وتتحول إلى شريك في الحفاظ على السلم الأهلي بدلاً من أن تكون ضحية للاضطراب.
إن حماية الطبقة الوسطى في الأردن ليست مطلباً مالياً ولا ترفاً سياسياً، بل هي استراتيجية وطنية لحماية المجتمع من الانزلاق نحو العنف والتطرف. فهي الفئة التي تضمن استقرار المجتمع وتمنع تفككه وتبقي على قيم الاعتدال التي ميّزت الأردن تاريخياً. الإصلاح هنا ليس خياراً مؤجلاً، بل ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، لأن أي إضعاف لهذه الطبقة سينعكس مباشرة على الأمن الاجتماعي وعلى صورة الأردن كبلد مستقر ومتوازن في محيطه.
النقد البنّاء الذي يُطرح اليوم لا يستهدف التشكيك بقدرة الدولة، بل يعكس رغبة حقيقية في التصحيح ومواجهة التحديات بجرأة وشفافية. الإصلاح العميق والشامل هو وحده الكفيل بأن يجعل الطبقة الوسطى أكثر صلابة وقدرة على الصمود، وهو وحده ما سيحمي المجتمع من تنامي العنف ويحافظ على الهوية الوطنية الجامعة. وبقدر ما ننجح في تمكين هذه الطبقة، بقدر ما نضمن مستقبلاً أكثر استقراراً وعدلاً وتوازناً للأردن.

