يشكل افتتاح سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني ولي العهد لمدينة العقبة الرقمية حدثًا استثنائيًا بكل المقاييس، إذ لا يقتصر على كونه أول مشروع رقمي متكامل في الأردن، بل يمثل نقطة تحول في المسار الاستراتيجي للمملكة نحو لعب دور فاعل ومحوري في الاقتصاد الرقمي العالمي. هذه المدينة ليست مجرد مبنى أو مركز بيانات، بل مشروع متكامل يضع الأردن على خارطة المنافسة الدولية في مجال التكنولوجيا والاتصالات، ويمنحه موقعًا متقدمًا في مسيرة التحول الرقمي العالمي.
العقبة الرقمية تحمل في جوهرها رؤية تتجاوز الحدود الجغرافية لتؤكد أن الأردن لم يعد مجرد ممر للتجارة التقليدية، بل أصبح اليوم بوابة جديدة للتدفقات الرقمية العابرة للقارات. من خلال محطة إنزال الكوابل البحرية التي تعمل وفق سياسة الوصول المفتوح، تصبح العقبة مركزًا إقليميًا ودوليًا يربط بين آسيا وإفريقيا وأوروبا، ويعزز استقلالية المنطقة في مجال الاتصالات الرقمية. وجود ثلاثة كوابل بحرية عاملة وكابلين إضافيين قيد التطوير لا يمثل مجرد إنجاز تقني، بل هو خطوة استراتيجية تضع الأردن في قلب المشهد الدولي للاتصالات، وتمنحه دورًا مهمًا في تعزيز أمن المعلومات العالمي وحماية البنية التحتية الرقمية من أي تهديدات أو أزمات محتملة.
من زاوية اقتصادية، يفتح هذا المشروع أبوابًا واسعة أمام الأردن ليكون وجهة استثمارية عالمية للشركات الكبرى والناشئة على حد سواء. فالمدينة بطاقة تشغيلية تصل إلى اثني عشر ميغاواط وبقدرة على استيعاب تقنيات الذكاء الاصطناعي والتوسع في المستقبل، تقدم منصة مثالية للشركات العالمية التي تبحث عن مراكز تشغيل حديثة وموثوقة وقادرة على خدمة أسواق المنطقة بفعالية عالية. وهكذا يصبح الأردن نقطة جذب للتدفقات المالية والاستثمارات الأجنبية المباشرة، خصوصًا في مجالات التقنية المالية والحوسبة السحابية والمحتوى الرقمي والتجارة الإلكترونية، وهي قطاعات تشكل مستقبل الاقتصاد العالمي.
البعد الاستراتيجي لهذا المشروع لا يقف عند الجانب الاقتصادي فقط، بل يتجاوزه ليشمل الأمن السيبراني والاستقلالية الرقمية. ففي عالم تتعاظم فيه التهديدات الإلكترونية وتشتد فيه المنافسة بين القوى الكبرى على السيطرة على تدفقات البيانات، توفر العقبة الرقمية حلاً بديلاً آمنًا وموثوقًا يعزز ثقة الشركاء الدوليين، ويضع الأردن في موقع الدولة التي تقدم خدمات رقمية مستقلة تحمي معلومات عملائها وتوفر لهم بيئة تشغيلية عالية الأمان. وهذا مكسب استراتيجي يعزز مكانة الأردن عالميًا، ويمنحه قيمة مضافة على مستوى الأمن الرقمي الإقليمي.
المشروع أيضًا يمثل رافعة حقيقية للاقتصاد الوطني، فهو ليس مجرد بنية تحتية جامدة بل بيئة استثمارية متكاملة ستنشأ حولها شركات ومؤسسات وخدمات متعددة، ما يعني خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة لآلاف الشباب الأردني، وتعزيز مهاراتهم في مجالات التكنولوجيا المتقدمة. وبذلك يساهم المشروع في بناء اقتصاد رقمي معرفي يقوم على الابتكار والإبداع، ويعزز من مكانة الأردن كمركز إقليمي للتدريب والتطوير ونقل المعرفة.
ومن جانب آخر، فإن العقبة الرقمية تعكس صورة حضارية للأردن باعتباره جسرًا يربط الشعوب والثقافات لا عبر التجارة التقليدية فقط بل من خلال التبادل الرقمي والمعرفي. فهي منصة لتطوير محتوى عربي منافس، ومجال رحب لدعم مبادرات التعليم والتدريب عن بعد، واستثمار في الإنسان قبل أن يكون استثمارًا في التكنولوجيا.
وبينما تتسابق الدول الكبرى إلى بناء مراكز بيانات عملاقة لضمان السيطرة على مستقبل الاقتصاد الرقمي، ينجح الأردن عبر هذا المشروع في أن يضع نفسه في قلب هذه المنافسة العالمية بفضل استقراره السياسي ورؤيته الاقتصادية الحديثة وموقعه الاستراتيجي. العقبة الرقمية ليست مجرد مشروع وطني بل هي رسالة للعالم تؤكد أن الأردن مستعد للعب دور رئيسي في رسم ملامح المستقبل الرقمي، وأنه يمتلك القدرة على أن يكون مركزًا إقليميًا ودوليًا لتدفقات المعلومات والخدمات الرقمية.
افتتاح العقبة الرقمية يمثل إذن حدثًا تاريخيًا يتجاوز حدود الزمان والمكان، فهو بداية لمرحلة جديدة تضع الأردن في قلب خريطة التحولات التكنولوجية الكبرى، وتمنحه القدرة على المنافسة وتقديم نموذج متفرد في بناء اقتصاد رقمي عالمي. إنها خطوة استراتيجية تحمل أبعادًا اقتصادية وأمنية وحضارية، وتؤكد أن الأردن، رغم صغر مساحته، قادر على أن يكون لاعبًا كبيرًا في المستقبل الرقمي للعالم.

