Home اختيارات رئيس التحريرالهوية الوطنية والحماية الاجتماعية

الهوية الوطنية والحماية الاجتماعية

د. أمجد أبو جري آل خطاب

by editor
63.9K views
A+A-
Reset

تحدثت في مقال سابق عن دور الأمن المجتمعي في ترسيخ الهوية الوطنية، واليوم أتناول جانباً لا يقل أهمية في هذا السياق، وهو الحماية الاجتماعية، التي تعد أحد أهم أركان بناء الانتماء وتعزيز الثقة لدى فئات واسعة من المواطنين، خصوصاً في مجتمع كالمجتمع الأردني، حيث تتداخل الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية مع السياق السياسي بشكل مباشر.

الحماية الاجتماعية ليست حكراً على الفئات المهمشة أو الشرائح الرقيقة كما يروج، بل هي ضرورة وطنية تشمل أيضاً جميع الشرائح المتوسطة، والتي لا تزال رغم كل التراجعات تمثل القاعدة الأعرض للمجتمع. هذه الشرائح وعلى مدى سنوات تعرضت لممارسات غير مدروسة بشكل علمي وكافي، ادت الى تأكل الثقة بمؤسسات الحكومة واتسعت الفجوة بين المواطن والمفهوم الفعلي للمواطنة.

ما واجهته الشرائح المتوسطة لم يكن فقط نتيجة شح الموارد، بل نتيجة مباشرة لسوء التخطيط والإدارة. ولعل أبرز تجليات هذا التراجع كانت في القطاعات الخدمية التي تمس الحياة اليومية للمواطن بشكل مباشر. في قطاع التربية والتعليم مثلاً، أصبح التوجه إلى المدارس الخاصة خياراً اضطرارياً وليس ترفاً، والسبب في ذلك تراجع جودة التعليم نتيجة قرارت اتخذت في الأربع عقود الماضية من قبل الحكومات، مما حمل الأسر أعباء مالية هائله يرفقها تفشي ظاهرة الدروس الخصوصية، التي باتت جزءاً من النسيج التعليمي نفسه داخل البيوت والمراكز.

اما في القطاع الصحي، ورغم أن الأردن شهد طفرة في البنية التحتية الصحية بفضل المبادرات الملكية في مختلف المحافظات، إلا أن الخدمة الطبية النوعية ما تزال متركزة في العاصمة. المريض في محافظة الطفيلة أو جرش أو معان قد يحول إلى مستشفى في عمان، على الرغم من وجود مستشفى حديث قريب منه، ما يفقد هذه المنشأت فعاليتها، ويعزز الإحساس بعدم عدالة توزيع الخدمات.

اما قطاع النقل العام، فهو قصة قائمة بذاتها. منظومة نقل الركاب بقيت عالقة في عقلية الامتيازات والمنافع الفردية، وهي عقلية فاقمت من مشاكل نقل الركاب وبرغم وجود قانون النقل العام رقم 10 لسنة 2017، الذي استكمل مراحله التشريعية لكنه بقي حبيس أدراج وزارة النقل. هذا القانون يتضمن رؤية متقدمة تعتبر النقل خدمة أساسية تقدم للمواطن لا كوسيلة للربح، إلا أن غياب الإرادة الفعلية لتطبيقه جعل من واقع النقل في الأردن مأساة يومية، بالاضافة إلى ازدياد أعداد مالكي السيارات ونرى بام عيننا الازدحامات المرورية الخانقة في المدن الكبرى.

الشق الاجتماعي لا يقل خطورة، فالمجتمع الأردني شهد تحولات عميقة منذ التسعينيات بفعل موجات الهجرة والتغيرات الديمغرافية المتسارعة، لكن المؤسسات الحكومية لم تواكب هذا التغير، ولم تطور أدواتها ولا فهمها لواقع المجتمع الجديد، فتركت فراغاً تم ملؤه بمظاهر سلبية، كاتساع ظاهرة تعاطي المخدرات، والتطبيع مع السلوك العدواني، والتفاخر بكسر القانون علناً؛ فليس من المقبول أن يصبح إطلاق الزامور سبباً لارتكاب جريمة قتل، أو أن يتحول تحدي القوانين إلى شكل من أشكال استعراض القوة.

في الجانب السياسي، جرفت الحكومات المتعاقبة الحياة الحزبية، ودفعت الشباب إلى العزوف عن الشأن العام، اما خوفًا أو بسبب الا مبالاة. المبادرات التي طرحتها الحكومات كانت في معظمها شكلية، إلى أن جاءت مبادرة جلالة الملك عبدالله الثاني بتشكيل اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، التي شكلت نقلة نوعية وأعادت الاعتبار لفكرة المشاركة السياسية كمسار وطني حقيقي، لا مجرد زينة ديمقراطية.

كل هذه العوامل مجتمعة دفعت المواطنين للانكفاء نحو هوياتهم الفرعية بحثاً عن الأمان والتمثيل والحماية التي لم تجدها في مؤسسات الحكومة. وهكذا تراجعت الهوية الوطنية الاردنية الجامعة لحساب هويات مناطقية أو عشائرية أو حتى فردية، والتي كان من المفترض أن تبقى جزءاً من التنوع لا بديلًا عن الانتماء العام.

You may also like

Leave a Comment

اخر الاخبار

الاكثر قراءة

جميع الحقوق محفوظة العموم نيوز

Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00