Home اختيارات رئيس التحريربين عرض بكين وصمت العرب.. أمة تُشيِّد نهضتها وأخرى تُشيِّع نفسها

بين عرض بكين وصمت العرب.. أمة تُشيِّد نهضتها وأخرى تُشيِّع نفسها

كابتن أسامة شقمان

by editor
15.5K views
A+A-
Reset

لم يكن العرض العسكري الذي شهدته بكين قبل أيام حدثاً عادياً يُضاف إلى سجل المناسبات الوطنية، بل كان لوحة كبرى مرسومة بإتقان، تحمل في تفاصيلها رسالة حضارية بليغة. ساعتان من الانضباط الذي يلامس حدود الإعجاز، صواريخ بأحجام لم يألفها النظر، وجنود يسيرون بخطى كأنها عقارب ساعة لا تعرف التوقف. لم يكن المشهد استعراضاً للقوة فقط، بل إعلاناً مدوياً بأن الصين قررت أن تنتقل من مقاعد المتفرجين إلى مقاعد الكبار: “نحن هنا… ولسنا في حاجة إلى إذن من أحد.”

الصين، تلك البلاد التي لم تُعطَ النفط ولا الغاز، ولم تُغدق عليها الطبيعة بكنوز الأرض، صنعت بنفسها معجزتها. بنت اقتصاداً يتجاوز ناتجه المحلي 18 تريليون دولار، لتصبح القوة الاقتصادية الثانية في العالم، بعد أن كانت قبل عقود لا تكاد تُذكر على الخارطة الاقتصادية. كيف حققت ذلك؟ بالاستثمار في أعظم مورد على الإطلاق: الإنسان. التعليم، البحث العلمي، الانضباط الاجتماعي، والصبر الطويل؛ كلها كانت مفاتيح النهضة.

أكثر من 1.4 مليار نسمة لم يكونوا عبئاً على الدولة، بل تحولوا إلى طاقة جبارة. ملايين يعملون في مصانع لا تنام، ملايين في مختبرات تبتكر وتبدع، وملايين يقودون مشروعاً حضارياً يمتد من أقاصي آسيا إلى قلب أوروبا وأعماق إفريقيا عبر مبادرة “الحزام والطريق”. هناك، في الشرق البعيد، تُترجم فلسفة النهضة عملياً: تحويل الكثرة إلى قوة، والتحديات إلى فرص.

وفي المقابل، نقف نحن العرب أمام مرآة الحقيقة المرة. لدينا ما لم يُتح لغيرنا: ثروات طبيعية هائلة، موقع جغرافي استراتيجي فريد، و492 مليون إنسان يمثلون قوة بشرية ضخمة. ومع ذلك، فإن الناتج المحلي العربي مجتمعاً لا يتجاوز 3.5 تريليون دولار، أي أقل من خُمس ما حققته الصين! المفارقة صادمة: نحن نملك الإمكانات، لكننا نفتقر إلى الرؤية والإرادة.

المعضلة الكبرى أن الثروات العربية لم تُوجَّه لبناء الإنسان، ولا لدعم البحث العلمي، ولا لخلق اقتصاد إنتاجي تنافسي. بل أُهدرت في الاستهلاك المفرط، والترف المظهري، والإنفاق العسكري على أسلحة تُشترى بمليارات لكنها لا تصنع قراراً ولا تحفظ كرامة. جيوش عربية بأعداد ضخمة وميزانيات خيالية، لكنها في كثير من الأحيان تحولت إلى أدوات داخلية لتثبيت أنظمة أو لخوض صراعات عبثية ضد شعوبها.

الأدهى أن أمن العديد من العواصم العربية مرهون بقرار من البيت الأبيض أو الإليزيه. سماء العرب محمية بأنظمة دفاعية غربية، بينما العقول العربية مُغيّبة عن صناعة السلاح. نشتري الهيبة ولا نصنعها، ونستورد الأمان ولا نبنيه بأيدينا.

الصين لم تقف طويلاً عند محطات الاحتلال الأجنبي، ولم تلعن الاستعمار جيلاً بعد جيل. تجاوزت ماضيها بخطط تمتد لعقود، واضعةً نصب عينيها عام 2049، الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية الشعبية، كموعد لتتبوأ مكانها في قمة النظام الدولي.

أما العرب، فما زالوا غارقين في معارك الماضي، يتقاذفون اللوم، ويهربون من مواجهة الحقائق. لا مشروع عربي جامع، لا رؤية استراتيجية مشتركة، ولا حتى إرادة للتوحد في ملفات مصيرية. كل دولة تغني على ليلاها، تبحث عن خلاص فردي، لتزداد الأمة تمزقاً وضعفاً.

الدرس الذي قدمته بكين على منصات العرض العسكري واضح وبليغ: القوة مشروع طويل النفس، تبنى بالتعليم، بالإنتاج، بالانضباط، وبالاعتماد على الذات. أما نحن العرب، فما زلنا ننتظر الخلاص من الخارج، ونظن أن مليارات تُصرف على شراء السلاح كفيلة أن تمنحنا مكانة بين الأمم.

الواقع يقول: إما أن نستيقظ ونبني مشروعاً حضارياً عربياً يقوم على الاستثمار في الإنسان والعلم والاقتصاد الإنتاجي، أو نظل مجرد سوق للآخرين، ومسرحاً لصراعات لا نملك زمامها.

خاتمة مؤلمة
العرض العسكري في بكين لم يكن مجرد احتفال، بل كان صفعة حضارية في وجه الأمم الكسولة. أمة قررت أن تنهض من تحت الركام، وأمة أخرى تواصل الهروب من مواجهة نفسها. الخيار أمامنا ما زال قائماً: إما أن نصنع مشروعنا ونبني مستقبلنا، أو نموت ونحن ننتظر حماية الغرب.

لقد آن الأوان أن نكفّ عن التذرع بالماضي ونواجه المستقبل بجرأة. فإما أن نصعد… أو نُشيّع أنفسنا إلى مقبرة الأمم.

 

You may also like

Leave a Comment

Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00