Home اختيارات رئيس التحريربين لاهاي وبريكس: حين تنتصر الكرامة على المصالح

بين لاهاي وبريكس: حين تنتصر الكرامة على المصالح

صالح سليم الحموري

by editor
19.2K views
A+A-
Reset

من جنوب العالم… تُولد عدالة جديدة، في زمنٍ يختلط فيه الدم بالمصالح، وتتوارى فيه القيم خلف أجندات السياسة، جاء يوم الحادي والثلاثين من يناير/كانون الثاني 2025 ليمنح “الضمير الإنساني” فرصة أخيرة للنجاة من عاره الأبدي. في لاهاي، وُلد تحالف نادر من ثماني دول من الجنوب العالمي، من ثلاث قارات. دول لم تُغْرِها القوة، ولم تُربكها حسابات النفوذ، بل حرّكها الواجب الأخلاقي والالتزام الإنساني، وأعلنت ما لم تجرؤ عليه القوى الكبرى: أن الجرائم لن تمر، وأن العدالة لا تموت إن وُجد من يُحييها.

“مجموعة لاهاي” لم تكن خطوة دبلوماسية عابرة، بل صرخة مدوّية في وجه الصمت الدولي المخجل أمام المأساة الفلسطينية. تحركت هذه الدول، وفي القلب منها جنوب أفريقيا وناميبيا وكولومبيا وكوبا، لتقول للعالم: لسنا شهودًا على الجريمة، بل شركاء في العدالة. إنها مجموعة قانونية وأخلاقية تعيد للأمم المتحدة شيئًا من معناها، وللقانون الدولي شيئًا من هيبته. جاءت لتُثبت أن القانون ليس مجرد أوراق مكدّسة في أدراج مجلس الأمن، بل سلاح أممي في وجه الاحتلال والتجويع والقتل.

ليست تحالفًا سياسيًا مؤقتًا، بل فرصة نادرة للإنسانية “لتستعيد كرامتها”. لتقول: إن كل منزل يُهدم في غزة، وكل طفل يُستهدف، وكل عائلة تُشرَّد، هو صفعة في وجه الضمير العالمي، وجريمة لا يجب أن تمر كما مرّت مآسٍ كثيرة من قبل. قالتها بوضوح وزير العلاقات الدولية في جنوب أفريقيا، رونالد لامولا: “لا توجد دولة فوق القانون، ولن تمر أي جريمة دون محاسبة.” وقالتها إيفون دوساب، وزيرة العدل في ناميبيا، بنبرة من يفهم عبء التاريخ: “عندما تسألنا الأجيال القادمة: ماذا فعلتم من أجل فلسطين؟ يجب أن يكون ردنا: تحرّكنا.”

وفي هذا السياق الدولي المتحوّل، لا تبدو “مجموعة لاهاي” مجرد تحرك قانوني معزول، بل تُجسّد انعكاسًا مبكرًا لتحوّلات كبرى في بنية النظام العالمي، حيث بدأت تكتلات الجنوب وصوت الشعوب في إعادة تشكيل ميزان القوة والعدالة. وهو ما أكّده صديقي البروفيسور خالد الوزني في مقاله المعنون “بريكس تضع قواعد نظام عالمي جديد”، حين كتب: “العالم يسير بثبات نحو نظام سياسي اقتصادي جديد… تتحلل فيه المنظومة الدولية من سطوة النظام المالي العالمي الحالي، وتنطلق نحو تعددية مالية ليست بريئة من الحسابات السياسية، لكنها أفضل من التبعية والانصياع لمزاج دكتاتوريات العقوبات والمصالح.”

تسير “مجموعة لاهاي” بهذا المعنى في الاتجاه نفسه: كسر احتكار العدالة، وتحرير القانون الدولي من هيمنة الكبار، وتحويله إلى أداة لحماية الشعوب لا أدوات للانتقاء السياسي. واستكمالًا لهذا المسار، تعقد جمهورية كولومبيا وجنوب أفريقيا، الرئيسان المشاركان للمجموعة، مؤتمرًا وزاريًا طارئًا في العاصمة بوغوتا يومي 15 و16 يوليو 2025، بعد ما يقارب عشرين شهرًا من الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، والتي ما تزال مستمرة بلا توقف، في مشهد بات يُهدد ليس فقط الشعب المنكوب، بل وجود المؤسسات القانونية الدولية ذاتها.

لقد أصبح لزامًا على الدول أن تترجم مواقفها إلى أفعال، وأن تطبق الرأي الاستشاري التاريخي لمحكمة العدل الدولية الصادر في يوليو 2024، والذي طالب بوقف جميع الأفعال التي “تساهم في الحفاظ على الوضع غير القانوني الذي أنشأته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة”. ولهذا السبب، سيُعلَن في هذا الاجتماع عن إجراءات ملموسة ومنسّقة لتطبيق القانون الدولي، وإنهاء الإبادة الجماعية، وضمان العدالة والمساءلة، وتحصين مستقبل النظام القانوني الدولي من الانهيار.

استندت “مجموعة لاهاي” إلى أوامر محكمة العدل الدولية، والرأي الاستشاري الصادر في يوليو 2024، ومذكرات المحكمة الجنائية الدولية التي اتهمت علنًا قيادات إسرائيلية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. لم تكتفِ هذه الدول بالإدانة اللفظية، بل أعلنت إجراءات واضحة: وقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، منع السفن المحملة بالأسلحة من الرسو في موانئها، دعم تنفيذ أوامر الاعتقال الدولية، والعمل الجاد على إنهاء الاحتلال، لا الاكتفاء بإدارة تبعاته. لقد قلبت المعادلة: بدل أن تكون العدالة أسيرة مجلس الأمن و”الفيتو”، أصبحت أداة بيد الشعوب الحرة.

ما يحدث في فلسطين ليس نزاعًا حدوديًا، بل جريمة مكتملة الأركان. قضية قانونية وإنسانية من الطراز الأول. والحق في تقرير المصير ليس “وجهة نظر”، بل التزام دولي تُلزم به المواثيق الأممية. انضمام هذه الدول إلى “مجموعة لاهاي” لم يكن دعمًا لفلسطين وحدها، بل استثمارًا في عالم أكثر عدلًا واستقرارًا. فعندما تُحاسب الدول على أفعالها، يُحمى القانون، وتُردع الجرائم، وتُمنح الشعوب أملًا. أما حين يُترك الظلم بلا حساب، فإن العالم كله يصبح رهينة للفوضى.

لم يعد الحياد مقبولًا. الحياد أمام الإبادة تواطؤ، والصمت مشاركة في الجريمة. ولهذا فإن “مجموعة لاهاي” ليست مجرد مظلة قانونية، بل منبر أخلاقي عالمي، يواجه كل دولة وكل زعيم بسؤال لا يمكن تجاهله: هل اخترتم أن تكونوا جزءًا من الحل؟ أم ارتضيتم دور الشاهد الصامت على الجريمة؟

الفرصة ما زالت قائمة، ولكنها الأخيرة. فرصة الإنسانية اليوم اسمه “مجموعة لاهاي”

وكما دوّن التاريخ أسماء من وقفوا إلى جانب نيلسون مانديلا في وجه نظام الفصل العنصري،

سيسجل أيضًا أسماء من وقفوا اليوم إلى جانب فلسطين، في زمنٍ صعب، زمن الصمت، والغطرسة، والعجز.

لاهاي وبريكس… بوابة العدالة إلى نظام عالمي جديد

You may also like

Leave a Comment

اخر الاخبار

الاكثر قراءة

جميع الحقوق محفوظة العموم نيوز

Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00