قد تكون شهرة كتابٍ ما حين تطغَى؛ سببًا لاختفاء أعمال أخرى للكاتب نفسه، ربما تكون أشدَّ أهمية، أو على الأقل ذات أهمية في موضوعها وبابها..
لا شك أن قراء الأدب، خاصة بعد تفشي العناية بأدب الاستشراف والأدب السياسي في العقد الأخير، مُصاحِبًا للتغيرات السياسية الكبرى، سواء التي عرفها العالم العربي أو عرفتْها عموم أقاليم الدنيا، أقول: لا شك أنهم قد قرؤوا وتناقشوا في رواية “1984” للروائي الإنجليزي الشهير جورج أورويل، وربما بدرجة أقلَّ روايته القصيرة “مزرعة الحيوان”، وكلاهما تُدرَجان ضمن الأدب السياسي، لكن الأولى تندرج كذلك في أدب التنبؤات أو الاستشراف، الذي كان أورويل متشبها فيه بأستاذه وأستاذ التنبؤات والاستشرافات: هربرت ويلزHerbert G.Wells ، صاحب الروايات الشعبية مثل “آلة الزمن” و”الحرب الخفية” وغيرهما.
غير أن إنتاج أورويل الكتابي لم ينحصر فيما هو شائع بين القراء والشباب في عصرنا، بل كان كاتبا صحفيا في عدة مجلات وجرائد من بينها مجلة: أدلفي Adelphi ، والكتابة الجديدة “New Writing ، وFortnightly Review”، والأفق “Horizon و Tribune” ، وغيرها. ولعله كان حَذِرًا في كتابة النصوص الطويلة، ومسترسلا في الكتابات اليومية الموجهة للصحافة، ما يعني أنها للقارئ العام والمثقف الشعبي، الذي لا يرغب أن يفوته شيءٌ من الثقافة العمومية التي تأتي بها وسائل الإعلام آنذاك.
وربما لأجل هذا كانت كتابات أورويل الصحفية تتراوح بين أن تكون عالية القيمة في موضوعها وبين أن تكون شديدة التفاهة (يجب أن نقول هذا بصراحة وسأضرب مثالا على ذلك) أو غاية في البساطة، حتى إننا يمكن أن نطرح سؤالًا على شاكلة: لماذا كتب أورويل هذا أصلا؟ أكتبه فعلا ليُنشر في الصحافة أم ليُرمَى في سلة المهلات؟ أكان واعيًا حين أرسل المسودة لمحرر الصحيفة أم كان ثَمِلًا؟
لماذا أكتب؟ هذا العنوان بالضبط كان عنوان مجموع مقالاته، الكتاب الذي يحتوي على 300 صفحة، في ترجمة عربية أراها غاية في السوء، من مترجم بحريني اسمه علي مدن، منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 2013، وبدعم من وزارة الثقافة بمملكة البحرين. لا أدري: أكان المترجم يمتلك بجدارة مستوى يؤهله لاستخدام الإنجليزية والتحدث والكتابة بها، حتى نفكر في الخطوة اللاحقة، الترجمة منها، أم لا؟ لأنه حين قراءتي لمجموع المقالات، وبحكم اختصاصي وعنايتي بالعربية، وجدت أن المترجم كان يقدم لنا عباراتٍ مفككةً، وأخطاءً لغويةً بكمية كافية لإثارة الاشمئزاز. على أي حال؛ فإنه مع ذلك يمكن العثور على المعنى المقصود من خلال عمليات ذهنية، باستخدام الحد الأدنى من الجُمَل والكلمات الصحيحة. هذه وظيفة العقل، ويجب عليه أن يتحمل المسؤولية في مواقف كهذه.
“لماذا أكتب؟” كان عنوانا خادعًا للقارئ المعاصر، ولكنه معروف في الأدبيات القديمة جدا، والمقصود استعمال عنوان فصل ما داخل الكتاب ليكون عنوانًا الكتاب بأكمله، دون أن تكون له أي علاقة أو ارتباط واضح أو غير واضح ببقية الفصول وموضوعاتها. وهذا يثير الريبة، خاصة في كتب المقالات والمجموعات القصصية مثل “كليلة ودمنة”، الذي هو عنوان لإحدى قصص الكتاب الشهير.
أما عن كتاب أورويل، هذا فإنه مقالات متناثرة (عددها 19 مقالةً) أرسل بها إلى محرري الصحف والجرائد في مناسبات أو في غير مناسبات، بعض المقالات جاءت في شكل قصص شخصية للكاتب، مثل “واقعة شنق” و”قتل فيل” و”مراكش”، وبعضها مقالات نقدية مثل “مارك توين” و”السياسة في مواجهة الأدب: فحص في أسفار غوليفر”، والمقالة الأكثر أهمية مطلقًا وهي “داخل الحوت”، وكذلك “لماذا أكتب؟”، التي سمى بها الكتاب كاملا، وغيرها، وهناك مقالات أخرى تافهة بكل صدق، مثل مقالته عن كيفية تحضير كوب شاي، سماها “كوب لطيف من الشاي”، يصف فيها عشر خطوات لإعداد كوب شاي بأسلوب فيه بعض السخرية، وأخرى بعنوان “بعض الأفكار حول العلجوم الشائع”، يتحدث فيها عن ذلك الحيوان الذي يعيش في برك الماء وقريبا من المستنقعات، وقد كان على ما يبدو يثير فيه تأمُّلًا رومانسيا نحو الطبيعة!
كانت مقالته الأكبر حجمًا والأغزر فائدة هي “داخل الحوت”، وهي تقع في قرابة 60 صفحة، يمكن في رأيي أن تُقتَطَعَ وتُنشرَ وحدها، مع تقديم بقلم ناقد متمرس، وتوزع على طلاب الأدب الإنجليزي والأدب الحديث عموما، لأنها تجربة فريدة تظهر إحاطة أورويل بالمصنفات الأدبية الإنجليزية في وقته، سواء تلك التي كان يكتبها الأدباء الشباب، أو من هم أقدم منهم تجربةً من الأدباء الذي يُطلق عليهم: الأدباء المُكرَّسون.
فأورويل حين يبدأ الكلام في هذه المقالة عن رواية “مدار السرطان”، للكاتب والرسام الأمريكي هنري ميللر، التي أثارت ضجة عند نشرها في باريس أول مرة، بسبب إباحيتها وفُحشها؛ فإنه يتنقل رويدا رويدا بين النصوص الشائعة وغير الشائعة، ويُجرِي مقارنات دقيقة بينها، ويتنقل في الحديث عن موضوعات الرواية وشعبيتها وانحسارها، وشهرة مؤلفيها وخفوت بعضهم، ويسرد خلال ذلك عشرات الأسماء الأدبية في بريطانيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
حين نطالع هذه المقالة التي تستحق أن تُقرأ عدة مرات وتُشرح وتُعرَض للحوار؛ نتلمس بكل سهولة روح الناقد في كتابة أورويل، وتختفي ذاتيَّتُهُ إلى أبعد حد، تلك الذاتية المرتبطة غالبًا بكونه هو الآخر كاتبًا وأديبًا، فالكاتب الذي ينتج النصوص ويرغب في أن تنال نصوصه شهرة ورضا بين عموم القراء والنقاد يصعب أن يكون متوازنا عند الحديث عن نصوص أدباء آخرين، خاصة أولئك الذين يعاصرهم، وأولئك الذين يشاركونه البلد نفسه (في اصطلاح التراث الإسلامي يطلق على الأول: المُعاصر والعصريّ وعلى الثاني: البلدي، أي الذي يشاركك البلد ذاته)، لكننا نجد أن أورويل قد وصل إلى درجة من النجاح في تجاوز تلك العقبة، وتحقيق التوازن..