حين يبدأ الطريق من الرصيف، تبدأ المدينة من الإنسان. فالرصيف ليس تفصيلًا معماريًا، ولا رفاهًا حضريًا، بل أحد أصدق مؤشرات العدالة الحضرية، ومقياسًا دقيقًا لاحترام حق المواطن في التنقّل الآمن. ومع ذلك، فإن الأرصفة في الأردن غائبة، أو متهالكة، أو مشوّهة، في مشهد يتكرر بصمت، ويكاد يُنسى رغم كلفته البشرية المتزايدة.
كما تناولت في المقالين السابقين قضيتي المناهل والمطبات العشوائية، نصل اليوم إلى وجه ثالث من أوجه الترهل في منظومة النقل والمرور والسلامة المرورية: الأرصفة.
في شوارع العاصمة والمحافظات، يغيب الرصيف الصالح للاستخدام. وإن وُجد، فهو غالبًا مقطّع، غير مستوٍ، محاط بالحاويات والأعمدة والإعلانات، بلا فاصل، بلا ميل، بلا تصريف، وكثيرًا ما يُجبر المارّة – بمن فيهم كبار السن والأطفال وذوو الإعاقة – على السير وسط الطريق، مخاطرين بأرواحهم.
هذه ليست مجرد مظاهر ضعف عمراني، بل تعبير صارخ عن غياب التخطيط والمسؤولية المؤسسية. فالجهات المعنية بشبكة الطرق، كلٌّ في نطاق اختصاصه، تتحمل مسؤولية مباشرة عن هذا الواقع.
فالرصيف جزء لا يتجزأ من منظومة السلامة المرورية، وغيابه لا يقل خطورة عن غياب إشارات المرور أو انهيار البنية التحتية.
وحين يُسأل المعنيون عن السبب، تكون الإجابة الجاهزة: قلة المخصصات. لكن هذا العذر لم يعد مقنعًا. فتكلفة إنشاء الرصيف وصيانته ضئيلة جدًا مقارنة بكلفة الأرواح التي تُزهق بغيابه، والإعاقات التي تترتب على حوادث دهس كان يمكن تفاديها برصيف بسيط. فالمشكلة ليست مالية، بل تخطيطية وإدارية ورقابية.
في الدول المتقدمة، يُصمم الرصيف استنادًا إلى أدلة هندسية دقيقة، كدليل التصميم الأمريكي (AASHTO) والدليل البريطاني (Manual for Streets). وتشترط هذه الأدلة عرضًا لا يقل عن 1.8 متر واحيانا اقل او اكثر حسب الموقع والحاجة، وفصلًا واضحًا عن حركة المركبات، وميولًا لتصريف المياه، وأسطحًا غير منزلقة، وملاءمة كاملة لذوي الاحتياجات الخاصة، وخلوًا تامًا من العوائق. كما تؤكد على ضرورة مراعاة حجم حركة المشاة، واستخدامات الشارع المحيط، ومداخل البيوت والمحال، وممرات الدراجات، ومواقع الأشجار والقارمات والحاويات.
أما في واقعنا، فلا دليل يُقرأ، ولا مهندس مختص يُستشار، ولا مساءلة تُفعل.
والأخطر أن الغياب القانوني يتواطأ مع الغياب الهندسي. فعندما يُجبر أحدهم على السير في الشارع لعدم وجود رصيف، ثم يُدهس، تُحصر المسؤولية بالسائق وحده، وكأن الضحية اختار المخاطرة بنفسه.
أما في العدالة الحقيقية، كما هو الحال في الدول المتقدمة، فيُعد غياب الرصيف سببًا مباشرًا للحادث، ويُدرج في التقارير الأمنية والقضائية، وتُحمَّل الجهات المسؤولة عن البنية التحتية جزءًا – وأحيانًا كل – المسؤولية القانونية. فالعدالة المرورية تبدأ من عدالة البنية التحتية. وما لم تُحاسب الجهة التي أهملت تنفيذ الرصيف، فإن الحديث عن تطوير النقل والمرور، وتشريعات السلامة، والعدالة الاجتماعية، يظل ناقصًا.
معالجة هذا الملف تبدأ بخطة وطنية شاملة تُعيد الاعتبار لهندسة المرور، وخاصة هندسة المشاة، وتربط تنفيذ الأرصفة بكل مشروع تطوير حضري، وتُلزم الجهات التنفيذية بوجود رصيف آمن قبل أي افتتاح رسمي أو ترخيص نهائي.
لا بد من تعيين مختصين وفنيين مؤهلين في هندسة النقل والمرور والسلامة المرورية داخل وزارة الأشغال العامة والإسكان، ووزارة الإدارة المحلية، وأمانة عمان، وسلطتي إقليمي العقبة والبتراء. كما لا بد من تحديث الأدلة الفنية الوطنية لتنسجم مع المعايير الدولية المعتمدة، وأن يُدرج غياب الرصيف ضمن تقارير الحوادث وتحقيقات القضاء، مع تحميل الجهات المعنية المسؤولية الإدارية والقانونية عند ثبوت التقصير.
الرصيف ليس مجرد ممر، بل شهادة حيّة على وعي المدينة، ومرآة صدقها في التزاماتها تجاه الناس. ومن لا يُحسن حماية من يسير، لن يُحسن إدارة من يقود. ومن لا يبني رصيفًا آمنًا، قد يكون شريكًا – بصمته أو تقصيره – في كل حادث دهس جديد.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن الجهات المسؤولة تتعمّد الإضرار بالمشاة أو الاستهتار بأرواحهم، لكن المؤكد أن مؤسساتنا تفتقر إلى المتخصصين والفنيين في هندسة النقل والمرور والسلامة المرورية. وهذا هو بيت القصيد في هذه السلسلة: الخلل الأكبر ليس في غياب البنية، بل في غياب العقول القادرة على التخطيط والتنفيذ والمراقبة، ودرء الكارثة قبل وقوعها.
والرصيف، رغم رمزيته، ليس إلا جزءًا من منظومة أوسع لسلامة المشاة على الطرق، عناصرها الهندسية متعدّدة، وسنعود إليها لاحقًا ضمن رؤية متكاملة، تضع الإنسان في قلب الطريق، لا على هامشه.
والله ولي التوفيق.