في غزّة حيث الحصار والقتل والتجويع.. في غزّة مجاعة فاقت الحدود حسب تصنيف الأمم المتحدة، وإسرائيل تُدخل المساعدات وتقتل طالبيها، حتّى أنّ أهالي القطاع تغيّرت ملامحهم.
التجويع فاقَ الاحتمال، ويوميًا يحصد سوء التغذية ضحاياه من القطاع، فشبح الموت يلاحق الغزيين أينما توجّهوا، ومن ينجو من القصف يقتلهُ الجوع، والمشاهد من هناك باتت أقسى من أن يتحملها أي إنسان.
ففي المدينة المدمّرة رائحة الموت تفيض من كُلِ مكانٍ وفي كُلِ زمان، ينتظر السكان حلاً، لكنّ لا حل في الأفق؛ فلا مفاوضات؛ لأنّه ببساطة لا أحد يريد لهذهِ الحرب أن تتوقف.
حرب دمّرت كل شيء، فيما صوت الإنسان هناك يقول كفى..!.
حصيلة جديدة وقد لا تكون الأخيرة لمأساة الجوعِ والحصار، المفروض على قطاع غزّة، ليرتفع إجمالي ضحايا التجويع خلال ساعات مضت إلى ما يزيد عن مئةٍ وخمسٍ وسبعين وفاة بينهم ثلاثةٌ وتسعون طفلاً، ومع تلك الأرقام الصادمة قال المكتب الإعلامي الحكومي في غزّة بأنّ إسرائيل تواصل سياسة التجويع والحصار، ومنعت دخول اثنين وعشرين ألف شاحنة مساعدات متكدّسة على المعابر.
لأول مرة منذ خمسة أشهر من الحصار والمنع الإسرائيلي شاحنتا وقود تدخلان غزّة من معبر رفح، فيما تصطف الشاحنات التي تحمل مساعدات إنسانية استعداداً لدخول المعبر.
بعد أكثر من عشرين شهراً من الحرب على قطاع غزّة، يقاتل الناس للحصول على الغذاء القليل، الذي يدخل غزّة، ومخاطرين بحياتهم تحت نيران إسرائيل.
في غزّة عصابات إجرامية تقوم بالاستيلاء على بعض هذه المساعدات بطرق مختلفة، وعقب وقف جزئي للقصف كان قبل أيام أعلنته إسرائيل تحت الضغط الدولي، بسبب خطر المجاعة وبسبب كل ما ظهر على وسائل الإعلام، ادخال المساعدات تم؛ ولكن بكميات اعتبرتها المنظمات الدوليّة غير كافية إلى حدٍ كبير.
ولتجنب انفلات الأوضاع وسط الفوضى بالمساعدات طُلب من سائقي برنامج الأغذية العالمي التوقف وتركِ الناس يأخذون المساعدات بأنفسهم، ومع هذا لم يسلّم قرابة الألف وأربعمئة فلسطيني في غزّة قضوا معظهم خلال تسلّم المساعدات بنيران الجيش الإسرائيلي، أثناء أيضًا انتظارهم لمساعدات إنسانيّة، وفق ما أكّدته الأمم المتحدة.
المنظمات الدوليّة تندد منذ أشهر بالعراقيل التي تفرضها إسرائيل؛ كرفض إصدار تصاريح عبور الحدود، والبطء بتخليص الأوراق الجمركيّة ومحدوديّة نقاط الوصول والمناطق الخطرة.
كل ذلك يجتمع مع عصابات تنهب قسمًا من المساعدات، وتهاجم بعض الأحيان مساعدات ومستودعات بشكل مباشر، وتبيع إلى تجار يعيدون بيع هذهِ المساعدات ولكن بأسعار باهضة.
المياه راكدةٌ سياسياً بشأن التوصلِ لصفقةٍ تنهي الحرب في غزّة وتُعيدُ الرهائن، غيرَ أنّ الغليان متواصل داخليًا، ويعكسُ صراعًا آخذًا بالتعمّق بأروقةِ المؤسسة العسكريّة الإسرائيليّة من جهة، ومع حكومة بنيامين نتنياهو من جهةٍ أخرى، فتوسع الحرب في غزّة أو احتلالها بالكامل كما يطالب وزراء نتنياهو، من شأنه استنزاف القوات واستغراق أشهر عدّة وفق الجيش الإسرائيلي.
كما أنّ أي عمليةٍ من هذا النوع ستعرّض حياة الرهائن المتبقين للخطر.
القرار العسكري شكّل صدمةً داخل صفوف الحكومة، لا سيما من جانبي وزيري المالية والأمن القومي بن غفير وسموتريتش. الوزيران طالبا بتقديم خُطّةٍ لاحتلال غزّة وتدميرها بما يشمل شبكة الانفاق تحتها، مطالبين نتنياهو بتقديم إعتذارٍ لرئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي لاتهامه بالجبنِ واستبداله بإيال زامير، وفق صحيفة هآرتس.
ليأتي ردُّ الجيش بأنّ عملية كهذهِ يتطلب تعزيز حجم القوات، لكنّ نتنياهو لم يستبعد المقترح.
نقاشاتٌ زادت من الاحباط داخل المستوى الأمني، فهو المبعدُ الآن عن فحوى مفاوضات إطلاق الرهائن تطبيقًا لقرار نتنياهو، طالما مقترحاته ليست موضع ترحيب.
متطلبات المرحلة الحالية وفق الجيش ضربات جويّة وعمليات بريّة محدودة تسمحُ بتطويق مدينة غزّة، ليقدّم للحكومة ضربتين في آنٍ واحد؛ إنهاء مهام عملية عربات جدعون، وتقليص عدد قوات الاحتياط في كل الجبهات، بنسبة ثلاثين بالمئة بانتظار قرارٍ جديد.
بعد ثلاثة أشهر على بدئها أعلن الجيشُ الإسرائيلي إنهاء عملية عربات جدعون البرية في غزّة، ليؤكد سحب الفرقة ثمانية وتسعين من القطاع، والتي تضم ألوية مظليين وكوماندوز، وذلك تمهيدًا لما قال مهام إضافية لم يحددها.
ورغم ربط الجيش الإسرائيلي إنهاء العملية بتحقيق أهدافها، إلا أنً تقارير إسرائيليّة نفت إحراز الجيش لأي تقدّمٍ جديد على الأرض، بل يواصل التمركز في مناطق سيطر عليها سابقًا؛ فالجيش الإسرائيلي يسيطرُ حتى ساعات كتابة هذا التحليل، على سبعةٍ وسبعينَ بالمئة من مساحة قطاع غزّة، عبر القواتِ البريّة وإمّا أوامر الإخلاء والقصف الذي يبقي السُكّان بعيدين عن منازلهم.
تل أبيب لم تعلن عن ادخال قواتٍ بديلة، لتبقى أربع فرقٍ عسكريّة تواصلُ عملياتها داخل القطاع؛ اثنتانِ منها تنفذان عملياتٍ هجومية شمال القطاع، وفي خان يونس إضافة إلى أخريين للدفاع. الفرقة مئة واثنتان وستون تعمل في شمال قطاع غزّة وتسيطر على أجزاء واسعة من المنطقة الساحلية والعطاطرة، وجباليا؛ لكنّها لم تسيطر على بيت حانون في الكامل.
أمّا الفرقة مئتان واثنان وخمسون فتسيطرُ بشكلٍ كامل على شرق مدينة غزّة؛ حيث حيّا الشجاعيّة والدرج والتفاح وتوغلت بعمق عدّة كيلومترات. وبينما اقتربت من السيطرة على المنطقة الجنوبية من خان يونس تخضع مدينة رفح بشكلٍ شبه كامل لسيطرة قوات الجيش الإسرائيلي وكذلك محور موراج بين المدينتين.
الحكومة الإسرائيلية تشهد انقسامات حادة بشأن إدارة الحرب، و” الكابينيت” الأمني المصغّر يناقش ثلاثة خيارات رئيسية؛ يتمثل الخيار الأول في الاجتياح الكامل والذي يقوم على فكرة اجتياح شامل لمناطق مكتظة والإجلاء القسري لإسقاط حكم حماس، وهو خيار يدعمه اليمين المتطرف ويحذر منه الجيش كونه قد يعرض حياة الرهائن للخطر.
بينما يتمثل الخيار الثاني في التطويق والاستنزاف التدريجي وتقوم هذه الفكرة على محاصرة معاقل حماس وشن ضربات محدودة دون دخول بري شامل، وهذا الخيار يفضله الجيش لأنّ هدفه إرغام حماس على تقديم تنازلات دون المساس بالرهائن.
أمّا الخيار الثالث يتمثل بالاستمرار في الوضع الراهن، ويقوم هذا الخيار على فكرة الانتظار ومواصلة الضغوط مع إدارة مفاوضات غير مباشرة عبر الوسطاء.
خلال الأسبوع الجاري جرت اجتماعات في الحكومة الإسرائيلية جاءت تحت ضغوط شديدة تتعرض لها حكومة نتنياهو، بعد نشر مقاطع فيديو لاثنين من المحتجزين الإسرائيليين تبدو عليهما أعراض الجوع في أنفاق القطاع، وهو الأمر الذي اشعل الغضب في الشارع الإسرائيلي ضد حكومة نتنياهو، وفي الأوساط الغربية ضد حركة حماس.
وسط حالة من الضبابية تسيطر على مشهد الحلّ في غزّة مع إنهيار محادثات التهدئة، وعدم وضوح الرؤية الأميركية بشأن الخطّة الشاملة لوقف الحرب، وإعادة المحتجزين، اتجهت الأمور فجأةً إلى التصعيد مع حديث القناة الثانية عشرة الإسرائيلية نقلاً عن مسؤول في مكتب نتنياهو بأن رئيس الوزراء يميلُ إلى توسيع الهجوم على غزّة، بل والسيطرة على القطاع بأكمله.
وذهبت بعض المصادر إلى القول إن قرار احتلال القطاع قد اتخذ بالفعل.
يأتي هذا فيما عقد نتنياهو اجتماعا مع مجلس الوزراء المصغر لتوجيه الجيش لسبلِ تحقيق أهداف الحرب.
إسرائيل بعثت برسالة إلى مجلس الأمن قبل جلسةٍ خاصة حول غزّة تطالب بوضع قضية الرهائن المحتجزين في صدارة الأجندة الدوليّة، بينما تطالب السلطة الفلسطينيّة مجلس الأمن اتخاذ خطواتٍ فورية لفرض وقف الحرب وجرائم الإبادة الجماعية والتهجير والضم.
وتبقى الأسئلة التي تدور في فلك مجريات أحداث القطاع المؤلمة، إلى أين تتجه الأمور في غزّة؟ وهل يمكن أن تسرّع ضغوط حماس على نتنياهو عملية التوصل إلى صفقة؟
وهل تزداد عزلة الحركة في ظل تعقد مفاوضات إنهاء الحرب؟
وهل اختار نتنياهو استمرار الحرب واحتلال القطاع ضمن سياق الخطّة الشاملة التي تحدثت عنها واشنطن؟.