في شرق منطقة البحر المتوسط تداخلت التحالفات وتقاطعة خطوط الصراع لسنوات، وعادت القاهرة وأنقرة إلى البحر عبر تدريبات عسكريّة تعد الأكبر منذُ قطيعة شبه تامة، استمرّت لنحو ثلاثة عشر عامًا، على خلفية توترات سياسيّة أعقبت الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر عام ألفين وأربعة عشر.
مناورات “بحر الصداقة” ليست مجرد تدريبٍ عابر، بل إنعكاسٌ لتحولٍ إستراتيجي يضعُ خصمين سابقين على مسار تنسيقٍ عسكريٍ مباشر، في لحظة إقليميّة شديدة الحساسية، تتشابك فيها ملفات غزّة وليبيا والمنطقة وخطوط الملاحة. ولكن لماذا الآن؟!
ما يجري إقليميًا أصبح يفرض على اللاعبيين الإقليميين اتباع نهج أكثر واقعيّة في التعامل مع التهديدات الراهنة، وفي مقدمتها ما يحدث في غزّة.
الخطوة التي هي الأولى على صعيد استئناف المناورات في شرق المتوسط، في وقت تقول القاهرة بأنّ المناورات هي رسائلُ طمأنة للجاهزيّة الكاملة للقوات البحريّة المصريّة، بينما تقول أنقرة إنّها تعكسُ رغبةٍ مشتركة في تعزيز التعاون الأمني والدفاعي في منطقة ذات أهمية إستراتيجيّة.
ما هي الرسائل من المناورات التركيّة المصريّة التي تأتي في لحظة إقليميّة متوترة وبعد الهجوم الإسرائيلي على الدوحة؟
ولمن توجّه هذهِ الرسائل؟ وهل هي مؤشر إضافي على التحالفات الجديدة التي قد تقبلُ عليها المنطقة وسط المتغيرات الإقليمية والدولية، وبعد اتفاق الدفاع الاستراتيجي بين السعودية والباكستان والذي أعلن بأنّه يشمل البرنامج النووي؟
وزير الخارجيّة التركي هاكان فيدان وصف العلاقات مع مصر بأنّها في أفضل مستوياتها في التاريخ الحديث.
لا يتوقف الأمر عند التدريبات البحريّة فحسب؛ بل يمتد إلى شراكةٍ عسكريّة تشمل شراء الأسلحة، والتعاون في الصناعات الدفاعيّة وحتى التصنيع المشترك.
تعاونٌ يحمل رسالة مشفّرة إلى إسرائيل مفادها إنّ خريطة التحالفات الإقليميّة قد تشهدُ إعادة تموضع فيما ينسجم مع الظروف الراهنة، لكنّ خطوةٌ كهذهِ لا تخلو من تحدياتٍ بالنسبةِ للقاهرة، وعلى رأسها إذا ما كانت ستفسر بأنّها رسائل سلبيّة إلى حلفائها التقليديين في ملف الشرق المتوسط تحديدًا اليونان وقبرص.
الواقع الإقليميّ دفع البلدين لحشدِ قواهما العسكريّة، على نحو يدفع ويعزز العلاقات التي تمتد بين البلدين الذين تجمعهما المصالح والمخاوف المشتركة، وهو أثمر إلى هذا التعاون المشترك.
مما لا شك به بأنّ المناورات العسكري بين دولٍ وازنة اشتركا عسكريًا قبل أيام، في وقت تشهد المنطقة توترات وتجاذبات سياسية فإنّ الرسائل بالدرجة الأولى قد تكون إلى إسرائيل، والقوى العظمى في العالم.
العلاقات التي تطورت بين القاهرة وأنقرة عادتا إلى البحر عبر تدريبات عسكريّة، هي الأكبر بعد هذهِ القطيعة على خلفية التوترات التي تعصفُ بالمنطقة.
أكثر ما تخشاه إسرائيل منذ سنوات طويلة يتمثل في الخشية من التعاون العسكري المشترك بين مصر وتركيا. فهل هذهِ المناورات العسكرية موجّهة إلى إسرائيل فعلًا؟.
التمارين العسكريّة قد تكون هي لاستعراض القوة بين البلدين.
إسرائيل هي المعتديّة في المنطقة ومصر قلقة خاصًّة فيما يخصُّ شبه جزيرة سيناء، ومن الناحية الأخرى تركيا خاب أملها من الأحداث الدائرة في قطاع غزّة، وهو الأمر الذي ربما هو وح0د الجهود بين البلدين، على نحو ربما يتجّه نحو تطوير علاقات على صعيد الصناعات الدفاعيّة المشتركة.
تركيا اليوم دولة تتبوأ موقعًا مهمًّا على صعيد تصنيع الطائرات والأسلحة والمعدّات والأصول البحريّة بتكاليف أقل.
كما أنّ هناك مخاوف أمنيّة قد تتعلق في اليونان التي هي الأخرى لديها بعضها.
صحيح بأنّ هذهِ تمارين عسكرية؛ لكنّها قد يكون لها مخرجات سياسيّة واقتصاديّة، ليس فقط في المنطقة المحيطة بإسرائيل، بل في المنطقة وبشكلٍ خاص بين القاهرة وأنقرة، للدفاع ضدّ التهديدات والتعاون ضدّها أيضًا.
الأهداف والدوافع الحقيقية التي دفعت مصر وتركيا لإجراء هذهِ المناورات المشتركة خصوصاً بعد العلاقات التي شابها الكثير من التوتر في العقد الأخير تتمثل؛ بإنقطاع هذه العلاقات الذي كان متنامي منذ العام الفين وتسعة وحتى ألفين وثلاثة عشر، وكان له التأثير السلبي على البلدين في ظل الهجمات الإعلاميّة منذ ثورةً الثلاثين من تموز وحتى إنتهاء حكم جماعة الإخوان المسلمين.
التطورات الإقليميّة في البحر المتوسط خاصّة في الشرق منه، أدت لدفع كلا الطرفين للبحث عن طريقة للتعاون تؤدي إلى تحقيق مصالح ومكاسب مشتركة، وهي مبادرة جاءت من الجانب التركي في سياق تعزيز العلاقات الدوليّة. وكان من ركائز طبيعة العلاقات المصريّة التركيّة النمو في الميزان التجاري بين البلدين، وهذا يظهر بشكّل متزايد، إلى جانب التعاون الاستراتيجي بين الدولتين.
صحيح بأن مصر تستورد الأسلحة؛ لكنّها تسعى حاليًا إلى توطين صناعة السلاح، وهذا كان واضحًا من خلال تجارب سابقة مع الجانب الإيطالي وتجارب أخرى مع أسبانيا وفرنسا فيما يتعلق بالقطع البحرية الحربيّة، والقطع الثقيلة المشاركة في المناورات التي جرت.
كلا الطرفين رأى بإمكانية البناء على مذكرات تفاهم، وهذا كان واضحًا في زيارة كلا الرئيسين في العام الماضي ألفين وأربعة وعشرين، عدا عن الزيارة الحاسمة لرئيس هيئة الأركان المصريّة والذي وقع على مذكرة تفاهم مع نظيره التركي، واتفقا على أنّ هذا التعاون الاستراتيجي سيكون من خلال عقد اجتماعات سنويّة على صعيد هذا الشأن، وبدء من خلال رغبة مصر بتصنيع طائرات بدون طيار حديثة.
فهل تعتبر إسرائيل هذا التقارب الأمني والعسكري بين أنقرة والقاهرة تهديدًا مباشرًا لمصالحها في شرقي المتوسط؟
لا شك بأنّ إسرائيل لديها بعض القلق في ضوء وجود معاهدة عسكريّة بين مصر وتركيا منذ العام ألفين وثمانية، ومشاركة في مناورات عسكريّة مشتركة، بناء على العلاقات الدبلوماسيّة المتجذرة بين البلدين والتي تعود إلى العام ألفٍ وتسعمائة وخمسة وعشرين، وتجذرت في العام ألفٍ وتسعمائة وثمانية وأربعين.
المناورة تشير إلى تأسيس تحالفات جديدة في المنطقة على المستوى العسكري، في وقت فضّلت الولايات المتحدة الأميركية إسرائيل على دولٍ عربيّة رغم وجود شركات أميريكيّة مع دولٍ عربيّة.
طبيعة العلاقات الجيوسياسية في المنطقة أصبحت متغيّرة، وأصبح الصديق عدو، والمنطقة في حالة من التوتر الإقليمي جرّاء الممارسات الإسرائيليّة الوحشيّة ضد الشعب الفلسطيني والتصريحات المستمرة للوزراء المتطرفين في حكومة بنيامين نتنياهو لا تبشر مستقبل المنطقة بالخير.
طبيعة العلاقات المصرية التركية التي تنامت خلال الفترة الماضية هي بنيت على أساسٍ اقتصادي متين، قبل أن تعجّل التوترات التي تشهدها المنطقة في الملف الأمني والعسكري، وهو ما يشير إلى أن العلاقات بين البلدين على أعتاب التعاون العسكري، قبل الوصول ربما إلى مرحلة التحالف الذي يبنى على أساس اتفاقيات مشتركة، وتحديد العدو إلى كلا الدولتين وهو ما لم يتم حتى الآن.
التعاون بين الجانبين قد يتطور مستقبلًا للوصول على تعاون استراتيجي شامل، ومن ثم إلى اتفاقية دفاع عسكري استراتيجي مشترك، وهو أمر قد يكون المقصود به الممارسات الإميريكيّة في منطقة الشرق الأوسط. إذا أصبحت الولايات المتحدة يمينيّة أكثر من اليمين الإسرائيلي، وهو ما انعكس على خسائرها الاقتصاديّة في المنطقة، رغم حرص الجانب الأمريكي عليها منذ إنهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينيّات القرن الماضي.
التعاون العسكري هو رسالة مزدوجة ليس لإسرائيل فحسب بل لواشنطن أيضًا.
إسرائيل كانت تراهن خلال السنوات الماضية على الخلاف التركي المصري بما ينعكس على مصالحها، لكنّها اليوم تخشى من هذا التعاون الذي قد يؤدي إلى تحالف دفاعي استراتيجي بين البلدين.
فهل ستأخذ إسرائيل بعين الاعتبار هذا النوع من التعاون بين البلدين بعين الاعتبار وتعيد حساباتها من جديد؟!.
وهل يتوقع أن يشكّل التعاون الأمني والعسكري بين أنقرة والقاهرة ضغطًا على إسرائيل فيما يتعلق بمجريات الأحداث في قطاع غزّة مثلًا؟.
لا شك بأن تركيا هي دولة قوميّة كما هي إسرائيل التي تسعى إلى إنشاء دولة قوميّة لليهود على حساب الدول العربيّة والاستفادة من التجاذبات السياسيّة بين بعض الدول العربيّة.
فهل ستعيد بعض عواصم الدول العربيّة صياغة تحالفاتها من جديد بمعزل عن واشنطن، في وقت ترتكب الولايات المتحدة أخطاءًا استراتيجيّة من خلال جعل أمن إسرائيل العسكري والدفاعي أولويّة متقدمة على كافة مصالح الدول العربيّة ومصالح واشنطن أيضًا؟
وما هي مخاوف الجانب الإسرائيلي من القوة العسكريّة الكبيرة لمصر وتركيا ما لم تتدخل الولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل؟
وهل أنقرة مستعدة لبناء تحالف طويل الأمد مع القاهرة؟.
وهل ستتطور المناورات العسكريّة إلى إتفاقية دفاعيّة مشتركة بين البلدين؟
وهل ما يجري في منطقة الشرق الأوسط سيفرض على الدول العربيّة بناء تحالفات جديدة؟
وهل تخشى إسرائيل من عزلة جديدة أكثر مما تعيشه الآن رغم تحالفها في شرق المتوسط مع اليونان وقبرص؟
وهل يقف التعاون بين مصر وتركيا أمام تعاون جديد أم استمرار لمسار توقف منذ اثني عشر عامًا جرّاء خلافات سابقة مرتبطة في تنظيم الإخوان المسلمين؟.
وهل ستنوع دول المنطقة اليوم علاقاتها لتتمدد في التعاون الاستراتيجي مع دولٍ أخرى بعيدًا عن الارتكاز في العلاقات على القوى العظمى فحسب؟.
وهل سيعاد تشكيل موازين القوى في شرقي المتوسط؟.
فعليًا المناورات تفتح الباب أمام تحولات إقليميّة لافته، في ظل تقارب سياسي وعسكري متسارع بين دولتين، لطالما فرقتهما الخلافات. في المقابل إسرائيل تراقبُ بقلقٍ هذا التنسيق خشية أن يكون مقدمةٍ لإعادة تشكيل موازين القوى في المنطقة.
فهل نحن أمام تحالفٍ إقليميٍ جديد يعيد ترتيب أوراق النفوذ؟.
مصر ومعها الدول العربيّة والإسلاميّة مقتنعة بأنّ القوى العسكرية لن تحقق الأمن لإسرائيل.
في شرق البحر المتوسط لم تعد التحركات العسكريّة مجرد تدريبات روتينيّة؛ بل رسائل سياسيّة مشفّرة قد تعكس صراع صامت على النفوذ.
المناورات المصريّة التركيّة انتهت؛ لكنّها تكشف عن تقارب تجاوز الخلافات السابقة في لحظة إقليميّة حساسة تبحث فيها القوى الكبيرة عن مواقعها في ظل تراجع أدوارٍ تقليديّة.
إسرائيل التي اعتادت التفوق الاستراتيجي تراقبُ بقلقٍ تحالفًا محتملًا بين قوتين محوريتين قد تعيدان رسم توازنات القوى بعيداً عن هيمنتها.