عندما نناقش إلزامية وضع السارية أمام المباني الجديدة، فإننا لا نتحدث عن إجراء إداري تقني فحسب، بل عن سياسة عامة ذات أبعاد متعددة تمس الهوية الوطنية، والتخطيط العمراني، والاقتصاد، وتفاعل المجتمع. وكما أشار “الباشا” سمير الحياري في منشوره على فيسبوك، فإن الجدل الدائر بين مؤيد ومعارض يعكس الحاجة الملحة إلى توضيح فلسفة القرار وأبعاده المختلفة، لأن السياسات العامة لا تُبنى على الأوامر المباشرة، بل على أسس علمية ورؤية استشرافية تضمن تحقيق الأهداف بأفضل الوسائل وأقل التكاليف.
لكن السؤال الأهم: ما جوهر هذا القرار؟ وما هي غاياته الفعلية؟
يتطلب فهم أي سياسة عامة تحليلًا عميقًا لدوافعها وتأثيراتها، فهل الهدف من إلزامية السارية هو تعزيز الهوية الوطنية عبر ترسيخ الرموز الوطنية في المشهد العام؟ أم أنها محاولة لإضفاء طابع عمراني موحّد يعكس هوية الدولة في البناء والتصميم؟ أم أن هناك اعتبارات أخرى تتعلق بالتنظيم الحضري أو حتى بروتوكولات رسمية تهدف إلى تعزيز الصورة المؤسسية؟
أيًا كان الهدف، فإن تحليل تأثيرات القرار لا بد أن يشمل عدة أبعاد رئيسية:
1.التأثير الاقتصادي:
o هل سيتسبب هذا القرار في زيادة الأعباء المالية على المستثمرين وأصحاب المباني، أم سيتم تقديم حوافز لتخفيف الأثر المالي؟
o كيف يمكن تحقيق التوازن بين الحفاظ على الهوية الوطنية وضمان استدامة التطوير العقاري دون تكاليف إضافية غير مبررة؟
2.مدى تقبّل المجتمع:
o هل تم إشراك المعنيين المطوّرين العقاريين، المهندسين، أصحاب العقارات، والسكان في نقاش مجتمعي يسبق تنفيذ القرار؟
o هل هناك دراسات استقصائية حول مدى تقبل المجتمع لهذه الخطوة، أم أن القرار تم اتخاذه بمعزل عن آراء أصحاب العلاقة؟
3.الأثر الحضري والجمالي:
o هل سيتم تطبيق معايير موحّدة لتصميم السارية؟ أم سيُترك المجال للمرونة المعمارية بما يتناسب مع طبيعة كل مبنى؟
o هل يؤدي هذا القرار إلى تحسين المشهد العمراني، أم أنه قد يخلق مخرجات غير متجانسة تُضعف من جمالية التخطيط الحضري؟
في علم السياسات العامة، لا يكفي أن يتم إصدار القرار، بل يجب أن يسبقه نقاش مجتمعي واسع ودراسات تقييمية واضحة تكشف مزايا القرار، وتحدياته، وتأثيراته على مختلف الفئات، كذلك، فإن التواصل الحكومي الفعّال مع الجمهور هو عامل حاسم في نجاح أي سياسة، حيث أن الغموض أو نقص الشفافية يؤديان إلى مقاومة مجتمعية قد تُعيق التنفيذ الفعّال.
لذلك، إذا كان الهدف من القرار نبيلاً ويهدف لتعزيز الهوية الوطنية أو تحسين التخطيط العمراني، فإن آلية تنفيذه هي التي ستحدد ما إذا كان سيتحول إلى نجاح نموذجي، أم إلى قضية خلافية مثيرة للجدل.
نحن كمتخصصين في الإدارة الحكومية نُدرّس اليوم لطلاب السياسات العامة أن حكومات المستقبل يجب أن تضع الإنسان في صميم قراراتها، فالتطورات الحديثة تتطلب أن تكون السياسات أكثر ارتباطًا باحتياجات الجمهور، وأكثر تفاعلًا مع تطلعاتهم المتغير وكما يُقال: “يمكنك أن تأخذ الحصان إلى النهر، لكن لا يمكنك إجباره على الشرب.”
وهذا هو جوهر العمل الحكومي الرشيد، حيث لا يكفي تصميم السياسات وصياغة التشريعات، بل يجب أن تكون ملائمة، مؤثرة، ومبنية على تفاعل مجتمعي حقيقي يضمن نجاحها وتحقيق أثرها المنشود.
إذن، كيف يمكن أن يكون هذا القرار نموذجًا يُحتذى به في رسم السياسات العامة المستقبلية؟ الجواب يكمن في الموازنة بين الرؤية الوطنية، والاستدامة الاقتصادية، والقبول المجتمعي، والتنفيذ الذكي.