أحدثت الثورة السورية صدمة جيوسياسية في الشرق الاوسط سيكون لها ارتدادات سياسية واقتصادية ستظهر تباعا. ويتعين على الدول المحيطة لسوريا والدول التي لها مصالح حيوية هناك ان تتعامل مع هذه التبعيات بما يضمن مصالحها. وبات من الضروري مراقبة التطورات الحالية في سوريا لمعرفة الاتجاه العقائدي والسياسي والمواقف التي سيتخذها النظام الجديد بعد ان تستقر اموره الداخلية.
بعد مرور اكثر من ثلاثة اشهر على انتصار الثورة ، ظهرت بعض المؤشرات الدالة على العقيدة السياسية التي سينتهجها النظام الجديد سوءا على المستوى الداخلي او الخارجي. فقد بات واضحا لغاية الان بان سوريا ماضية باتجاه تبني النموذج الاسلامي المعتدل في الحكم على غرار النمط التركي . وان رفاق السلاح ، في تحولهم من رجال الثورة الى رجال الدولة ، يفضلون النموذج السياسي التركي الذي يمثله حزب العدالة والتنمية وزعيمه الرئيس رجب طيب اردوغان . ويشير انتهاج النظام السوري الجديد لسياسة الصبر والتدرج والتأني في فرض التعاليم الاسلامية الى الابتعاد عن نهجه السلفي الجهادي والاقتداء بما فعله الرئيس اردوغان في بداية استلامه للسلطة . كما وان الشعارات التي اطلقتها الثورة مثل اذهبوا فانتم الطلقاء، ومشاركة جميع مكونات الشعب السوري في الحكم ، والابقاء على شعائر وممارسات الطوائف السورية الاخرى وعدم التعرض لها ، اضافة الى التصريحات السياسية الناعمة ما هي الا محاكاة لاساليب الحكم الاسلامي في تركيا. ولعل الموقف تجاه اسرائيل يوضح اكثر ؛ اذ لم يجعل النظام الجديد في دمشق من القضية الفلسطينية شماعة يعلق عليها كل مشاكل سوريا ولا مشجبا يعيق تنفيذ مشاريعه السياسية والاقتصادية ؛ وهو الموقف الذي يمثل براغماتية سورية يمكنه من الالتفات نحو مشاكله الداخلية تماما مثلما فعل حزب العدالة والتنمية في بداية عهده حيث لم ترتفع وتيرة انتقاداته للمارسات الاسرائيلية الا بعدما تمكن من تثبيت حكمه وتعزيز شعبيته.
من جهة ثانية ، فكما ركز حزب العدالة والتنمية عند استلاامه السلطة على انعاش الاقتصاد وتحسين المستوى المعيشي للمواطن التركي بما ضمن له الاستمرارية السياسية ؛ يدرك النظام السوري الجديد بان التاييد الشعبي له وبقاؤه في الحكم لن يتحقق الا باطلاق ثورة اقتصادية شاملة تواكب ثورته السياسية التي قام بها . وذا ما نجحت الثورة السورية في تثبيت بيتها السياسي والامني فان سوريا سائرة باتجاه تبني النظام الرأسمالي والتخلي عن الاشتراكية بهدف استغلال ثرواتها النفطية والزراعية والسياحية والبدء بمرحلة تصنيعية شاملة يساعدها في ذلك الثروات الهائلة التي تتمتع بها سوريا. وسنرى سوريا تستقطب مزيدا من الاستثمارات العربية والدولية حال استقرار الوضع السياسي والامني وبعد ان يتم رفع او تخفيف العقوبات الدولية عنها. ومن غير المستبعد ان تحقق سوريا في المستقبل معدلات نمو قد تكون الاكبر في العالم العربي نظرا لحالة العطش الاقتصادي التي تركها النظام السابق وحاجة السوق السوري الى التحديث في كل القطاعات. وتأتي تشكيلة الحكومة السورية الجديدة مؤشرا على الاهمية التي يوليها النظام للوضع الاقتصادي والاتيان بوزراء اصحاب خبرة والكثير منهم خريجي الجامعات الغربية لمحاولة النهوض بالوضع الاقتصادي المتردي. ويذكرنا هذا الاهتمام بالحالة الاقتصادية والمعيشية للاوضاع في سوريا بالتجربة التركية التي كان جل اهتمامها تحسين الوضع الاقتصادي ومعالجة الاختلالات الهيكلية للاقتصاد التركي وتحسين معدل الدخل والقضاء على الرشوة وغيرها من الاجراءات التي اتخذها الرئيس اردوغان مما جعل من تركيا قوة اقتصادية اقليمية ودولية لا يمكن التقليل من نجاحها.
ومن زاوية نقاشية اخرى ، يمكن القول بان النظام السوري الجديد قد استبدل النموذج الايراني الذي تبناه النظام السابق بنموذج غير عربي آخر هو النموذج التركي وان لكلا النموذجين اهداف سياسية في العالم العربي الامر الذي يمكن تفسيره بانه حالة من الابتعاد بالنفس عن العالم العربي وخاصة دول محور الاعتدال العربي التي كانت اول من زارها الرئيس السوري السيد احمد الشرع. ولكن وبنفس الوقت لا يمكن تجاهل الدور الذي قامت به تركيا في دعم الثورة سياسيا وعسكريا وامنيا وتهيئة الظروف مع القوى الاخرى لعدم التعرض السياسي والعسكري للنظام السوري الجديد.
تبقى هنالك نقطة في غاية الاهمية لا يزال يكتنفها الغموض في مجمل الوضع السوري وهي موضوع التسليح العسكري. فكما هو معروف قامت اسرائيل بتدمير معظم معدات واسلحة واليات الجيش السوري المنحل بعد هروب الرئيس السابق بشار الاسد مما جعل الجيش السوري مكشوفا من دون اسلحة كافية وقادرة للدفاع عن سوريا واراضيها وسمائها وموانئها حيث بقيت بعض الاسلحة التي لا يمكن التعويل عليها في حال تعرضت سوريا الى تهديدات جدية. ومن المستبعد ان تقوم الولايات المتحدة او الاتحاد الاوروبي بتسليح الجيش السوري في الوقت الحالي ، كما من المستبعد ان تقوم روسيا ايضا بتزويد النظام الجديد بالاسلحة نظرا لوضع العلاقة الحالية المتوترة بين البلدين مما يجعل من تركيا البلد الوحيد القادر على امداد الجيش السوري بالاسلحة رغم عدم وجود صناعات عسكرية تركية متخصصة ومجربه في هذا المجال ، وهو ما يفسر البدء باقامة قواعد عسكرية تركية على الاراضي السورية لحماية سوريا من النقص الذي تعانيه في الاسلحة والعتاد.