بوضوح، بل بأقصى درجات الوضوح والحسم وشجاعة القول، وجرأة الموقف، قالت جلالة الملكة رانيا العبدالله إن التحضّر لا يُقاس بالناتج المحلي، بل بكيفية تعاملنا مع الآخرين في أوقات الشدة، ليست كلمات عابرة للأسطر، وللحظة قول، إنما هي رؤية متكاملة لكل من يظن بنفسه أنه حقق تحضّرا، ذلك أن التحضر بكيفية التعامل مع من يحتاج العون وقت الشدة، في إشارة من جلالتها لمعاناة الأهل في قطاع غزة، هي حقيقة كاملة للباحثين عن التميّز والتحضّر، فالناتج المحلي ليس مقياسا لذلك.
جلالة الملكة في كلمة أمام حشد كبير من الشباب طلبة الجامعات في المكسيك خلال مؤتمر سيغلو المكسيك (القرن الواحد والعشرين)، الذي يُعد أحد أكبر الفعاليات الشبابية السنوية وتُنظمه مؤسسة تيلمكس-تلسيل الخيرية، تحدثت عن الحقيقة كاملة فيما يتعلق بواقع معاناة الأهل في غزة، في مقاربة عميقة وذكية بين موضوع المؤتمر وبين ما تشهده غزة من عذابات ودمار كارثي وفق وصف جلالتها، تحدثت جلالتها ولغة الجسد تحكي معها ألما ووجعا على الغزيين، وما وصلوا له من معاناة وآلام ومجاعة وكوارث، مطالبة جلالتها بضرورة «إعادة تقييم الأسس التي تبنى عليها معايير التحضر والقيادة للمجتمعات ليس بالنسبة للشرق الأوسط فقط، ولكن للكثيرين حول العالم، واصفة حجم الدمار في غزة بأنه «كارثي»، عبارة تضع شكلا جديدا للتحضر والتقدّم بهذا الشأن، وتفرض صيغة حديثة وعملية وحقيقية على وقع أحداث المرحلة ووضع غزة الكارثي، وصولا لتحضّر حقيقي.
جلالة الملكة جعلت من غزة «العدسة التي تفرض علينا رؤية الأمور بوضوح أخلاقي ويجب إعادة تقييم الأسس التي تبنى عليها معايير التحضر والقيادة للمجتمعات ليس بالنسبة للشرق الأوسط فقط، ولكن للكثيرين حول العالم»، ووصفت جلالتها حجم الدمار في غزة بالكارثي، وأن الوحشية به واضحة، ووضعت حقائق ما تشهده غزة أمام هذا الحشد الكبير، متحدثة عن الأطفال والنساء والصحفيين والأطباء، وعن الجوع ونقص الإمدادات، وضعت الحقائق كاملة، داعية جلالتها «إلى وقفة تأمل صادقة لإعادة تقييم الأسس التي تبنى عليها القيم الأخلاقية في مواجهة ما وصفته بـ «ضعف الحس الأخلاقي الذي يطغى على عالم تعمه الفوضى والتشتيت والضجيج»، وضرورة إعادة تقييم تعريف المجتمعات للتقدم والقيادة والأسس التي يبنى عليها ذلك، «فلا يوجد عالم يمكن فيه تبرير قصف المستشفيات، أو تجويع الأطفال، أو إطلاق النار على أناس يسعون إلى المعونة»، هي ليست كلمات عادية، هي حالة إنسانية تتحدث بها جلالتها في تطبيقها نقلة من واقع لآخر تملأه الإيجابية، وتصوغه المثالية.
كلمة جلالة الملكة رانيا التي تحدثت خلالها عن الدعم الأردني للأهل في غزة، والدور الأردني العظيم، بإشارة من جلالتها لأهمية الدور الإنساني للأردن والمكسيك في دعم من يحتاج الدعم، وأهمية الرسالة الإنسانية للأردن، هذا الدور الذي يجب أن يكون هو السائد وليس استثناء أردنيا، أمام ما تشهده غزة، وما يواجهه سكانها من وضع كارثي.
وفي رؤية هامة، وعمق سياسي وإنساني، أشارت جلالة الملكة إلى «أن الحديث بصوت عالٍ حين يسود الصمت، هو جوهر ما يجعلنا بشراً في عصر يُختزل فيه الإنسان إلى مجرد أرقام وبيانات»، أي عمق بهذه الكلمات، وأي موقف تحكيه جلالة الملكة، نعم، الحديث بصوت عال وقد عمّ الصمت هو جوهر ما يجعلنا بشرا، بعيدا عما يفرضه زماننا من جعل الإنسان أرقاما وبيانات، هو جوهر الحقيقة تضعه جلالة الملكة على منبر دولي، غيّرت من خلالها صيغة التعامل مع الإنسان والتحضّر، مع واقعنا بصورة كاملة، تحدث به جلالة الملكة فوارق إيجابية عظيمة وعميقة، بصوت في زمن الصمت.
هو صوت جلالة الملكة رانيا وقد ساد الصمت، تقارب به بين موضوع مؤتمر هام على مستوى دولي، بلغة العالم، تضع حقيقة غزة، وتغير من الحسم بأن التحضر يأتي بالناتج المحلي، لتجعله له مقياسا جديدا في وقع ما نعيش في مرحلة دقيقة، تجعله يقاس بكيفية معاملة الآخرين في أوقات الشدة، كلمات بحجم خارطة طريق للتحضّر والعمل الإنساني.