مع التنويه المسبق أن كاتب المقال ليس عضوا فيه، فإن الحزب الديمقراطي الاجتماعي الأردني ، رغم محدودية إمكاناته، يقدم في ورقته الخامسة حول الإدارة المحلية نموذجاً مختلفاً عن السائد، في وقت تميل فيه الحياة الحزبية إلى الصمت أو التكيف مع الإيقاع الرسمي، ويصر هذا الحزب الصغير على أن يشتبك فكرياً مع قضايا كبرى، محاولا أن يكون جزءاً من التغيير لا مجرد شاهد عليه، فالورقة لا ترفع شعارات، بل تم صياغتها بمنهجية كوثيقة تفكير سياسي وإداري جاد، فيها ملامح مشروع قابل للنقاش لا مجرد توصيات عابرة، أو على الأقل ترمي على الطاولة “العامة” ما يستحق النقاش من أجله في مشروع بحجم دولة.
الورقة تبدأ من تشخيص صريح: منظومة الإدارة المحلية في الأردن بقيت أسيرة المركز، فبدلاً من أن تتحول اللامركزية إلى رافعة تنموية، تحولت إلى قشرة “فوق بيروقراطية” مركزية عميقة، تحتفظ بكل المفاتيح في يد وزارة الإدارة المحلية، النتيجة: سلطات محدودة للبلديات، موارد شحيحة، مجالس محافظة مضخّمة بلا فاعلية، وغياب لأي محاسبة حقيقية على مستوى القرار المحلي، بهذا المعنى، الورقة تضع أصبعها على قلب الخلل، من دون مواربة.
ثم تمضي أبعد من التشخيص، لتقترح مسارا لإعادة بناء المنظومة من الأساس، لتنطلق من مبدأ بسيط: لا معنى للامركزية من دون سلطة حقيقية على الأرض، لذلك تدعو إلى نقل تدريجي لصلاحيات حقيقية للبلديات، وربط السلطة بالمساءلة المباشرة عبر الانتخاب الكامل، بما في ذلك أمانة عمان الكبرى، مع التنويه أن هذا التحول لا يتم بقرارات فوقية فقط، بل عبر خلْق جهاز رقابي مستقل مختص بالإدارة المحلية، ومعهد وطني للتأهيل البلدي، يجهز كوادر قادرة على إدارة الموازنات والخدمات المحلية بكفاءة ومهنية.
وتذهب الورقة إلى نقد بنية مجالس المحافظات، معتبرة أنها لم تحقق التوازن المطلوب، بل أضافت طبقة بيروقراطية أعاقت التنفيذ وأربكت توزيع الصلاحيات، وتقترح تجاوز هذه المرحلة عبر تمكين البلديات بشكل مباشر، وخلق أقاليم تنموية مبنية على الميزة النسبية لكل منطقة، بدلاً من التقسيم الإداري التقليدي الذي لم يعد ينسجم مع متطلبات التنمية، وترى أن اتحاداً منتخباً للبلديات يمكن أن يتحول لاحقاً إلى مرجعية سياسية وإدارية تغني عن وزارة الوصاية نفسها.
وفي جانب التمويل، تضع الورقة إصبعاً على الجرح الحقيقي، فهي توضح بلا التباسات أنه من دون موارد مالية مستقلة، ستظل البلديات أسيرة دعم حكومي متقطع ومشروط، من هنا فالورقة تقترح إعادة هيكلة منظومة الإيرادات المحلية، ومنح البلديات حصصا أكبر من الضرائب والرسوم، وتوسيع صلاحياتها في تحصيل الإيرادات وتوجيهها وفق أولويات محلية، كما تدعو إلى اعتماد موازنات تشاركية تفتح المجال أمام المواطنين للمشاركة في تحديد الأولويات، بما يعيد الثقة ويجعل السلطة المحلية انعكاسا فعليا لحاجات الناس.
الأهم أن الورقة لا تتحدث عن كل هذا التغيير كترف، بل كضرورة مرتبطة بمسار الإصلاح السياسي والإداري الذي تبنته الدولة في السنوات الأخيرة، وهي تقول ببساطة: لا يمكن بناء حياة سياسية حقيقية من دون قاعدة محلية ديمقراطية راسخة، فالأحزاب لا تنمو من القمة، بل من القواعد المجتمعية، من البلديات التي تتحول إلى مسرح للمساءلة والمشاركة.
وهنا تصبح الرسالة أوضح: إن هذه الورقة تستحق أن تقرأها حكومة الدكتور جعفر حسان بعناية، فهي منسجمة مع ما أعلنته في أيامها الأولى عن الالتزام بخط الإصلاح السياسي والإداري وتنشيط الحياة الحزبية. حزب صغير وضع على الطاولة تصوراً عملياً قابلاً للنقاش، والحكومة التي ترفع شعار الإصلاح الجاد مدعوة إلى الإنصات إليه. فالإصلاح لا يبدأ من فوق فقط، بل من تلك المبادرات التي تولد في الهامش لتصنع الفرق في المركز.