هناك هدايا تشبه الرسائل السرّية؛ لا تُقدَّم فحسب، بل تُسلَّم كعقدٍ من الصداقة والمعرفة.
قبل فترة أهداني صديقنا ياسر قبيلات روايته الجديدة ذات العنوان المستفز «وقت للزعيم ليفكر – ماو في ضيافة ستالين». وضعتها على رفّ الانتظار ضمن قائمة قراءاتي، لكنها ـ بطولها الذي يناهز 610 صفحة ـ تحتاج إلى خطة وطقس قراءة خاص.
وقبل يومين، وصلتني هدية أخرى من الطراز نفسه: رواية «روح المدن: سردية المكان» للروائي والصحفي الرحّالة عامر طهبوب. عمل يمتد على 487 صفحة من المغامرة الفكرية، يفتح أبوابًا على “جغرافيا الروح” أكثر مما يصف جغرافيا الأرض.
هكذا تأتي بعض الكتب كهدايا ممهورة بروح أصدقائنا، فتغدو أكثر من مجرد أوراق وحبر؛ إنها علاقة متجددة وموعدٌ مع حكايات العالم وفلسفته.
قلبتُ الكتاب الجديد، ولم أكد أقرأ نصًّا حتى استوقفتني مقدمة زليخة أبو ريشة. كان تقديمها مثيراً ومستفزًّا إلى حدّ أنني قرّرت البدء به، مؤجّلًا زيارة «ماو في ضيافة ستالين» إلى ما بعد إتمام هذه الرحلة.
في قلب النص تلوح كاثرين، المرأة البلجيكية التي التقاها طهبوب أثناء إحدى رحلاته.
لقاءٌ عابر تحوّل إلى شرارة سردية؛ فمنذ اللحظة الأولى انجذبت كاثرين إلى حضوره المختلف، لكنها لم تتوقف عن الضحك وهي تردّد أكثر من مئة مرة: أنت مجنون!
وحقًا، عامر مجنون جميل، يشبه شجرة الجهنمية في ألوانها المتوهجة وأغصانها المتمددة، يترك حضوره أثرًا لافتًا أينما امتدت فروعه، ويملأ المكان حياةً لا تخفت.
والسبب كما تصفه صديقتنا كاثرين: عفويته الآسرة، وجرأته في القول، وملكة الردّ المباشر الصاعق والمبتكر التي يمتلكها؛
كانت تضحك طويلًا ثم تقول له بدهشةٍ وإعجاب: من أين تجيء بكل هذا الكلام وهذه المفردات؟!
وكان عامر يزداد ابتهاجًا مع كل ضحكة، يفرح بها كما لو كانت موسيقى خفيفة تبارك حضوره وتغذي حكاياته.
كان يتحدث وكأنه «مسحوب من لسانه» كما يقال، لا يفكّر طويلًا قبل أن يطلق جملة تترك صدىً بعيدًا.
هذه الطاقة غير المألوفة تحوّلت إلى جزء من نسيج الرواية؛ فـروح المدن لا تُكتب إلا بجرأة مماثلة.
كاثرين ليست مجرد شخصية، بل نافذة تُطلّ منها المدن على ذاتها.
عبرها يعيد طهبوب تشكيل معنى «المدينة» بوصفها كائنًا حيًّا يتنفس الذكريات والموسيقى وروائح الأزقة، مجازًا للمدينة/الأم، وللذاكرة المهاجرة، وللرغبة الإنسانية في العبور بين الأمكنة دون أن نفقد جذورنا.
يمتلك عامر طهبوب حسًّا فريدًا في التقاط ما يسميه “الأثر الخفي للمكان”.
من شوارع القدس إلى مقاهي عمّان، ومن أرصفة الكويت إلى دبي التي يقيم فيها الآن، يسرد المشهد لا كديكور، بل ككائن يفكّر ويتذكّر.
الرواية تمزج بين أدب الرحلة والكتابة الروائية، فتغدو كل مدينة فصلًا من سيرة شخصية وجمعية معًا.
وأنا أتنقّل بين صفحات «روح المدن»، كنت أشعر أن الحوار لا يجري فقط بين الكاتب وكاثرين، بل بين المكان وقلبي أنا.
كل فصل دعوة للتأمل: كيف تُغيّرنا المدن التي نحبها أو التي مررنا بها صدفة؟ وأي أثر نتركه نحن في حجارتها وذاكرتها؟
إهداء عامر طهبوب لهذه الرواية لي، كان أكثر من كتاب؛ كان خيط صداقة وثقافة يذكّرني بأن الكتابة قادرة على بناء مدنٍ من “المعنى”.
وهذا بالضبط عنوان الكتاب الجديد لصديقنا إبراهيم غرايبة، الذي ينتظرني في عمّان، لكنني سأحاول ألّا ألتقي إبراهيم قريبًا، فكتبه ليست كبيرة الحجم فحسب، بل عميقة الفكر، تتطلّب تركيزًا وتأمّلًا لفهم جوهر ذلك المعنى.
ثم إننا الآن في موسم الشتاء في دبي، ونرغب أن نستمتع بسحر أجوائها، فهذه المدينة تعرف كيف تخبّئ لنا دائمًا دهشة جديدة وراء كل ركن وسماء، وكأنها تدعونا إلى رحلة تأمل مختلفة عن أسفار الكتب الثقيلة.
ليت بعض الأصدقاء يكتبون مثل أحمد سلامة في قصصه القصيرة؛ فقصته الأخيرة «الحافر» كانت قصيرة لذيذة، تُقرأ على نفس واحد وتترك أثرًا طيبًا طويل المدى.
مدنُ المعاني التي يشيّدها هؤلاء لا تقلّ صلابةً عن حجارة أي مدينة مادية، بل تتفوّق عليها بقدرتها على البقاء في الذاكرة والفكر.
“عامر طهبوب وكاثرين” ليست مجرد رواية جديدة في رفوف المكتبة العربية، بل تجربة سفر إلى أرواح المدن؛ شهادة على أن الأدب يمكن أن يكون جواز سفرٍ داخلي، وأن لقاءً عابرًا في بلجيكا قد يفتح مدنًا كاملة في القلب، تمامًا كما فعل عامر طهبوب بعفويته وجرأته وجنونه الجميل.