عندما كنا نقول، منذ الأيام الأولى لحرب غزة، إن هدف إسرائيل الحقيقي ليس فقط القضاء على المقاومة ، بل الاحتلال والاستعمار والتهجير القسري، كان كثيرون يواجهون هذا الكلام بالتهكم أو بالتقليل من جديته ، كانوا يعتبرونه خطابًا عاطفيًا أو تهويلاً إعلاميًا ، أما اليوم، فقد انتهى زمن الإنكار.
اليوم، وبعد مرور عامين تقريباً على حرب الإبادة، تُعلن إسرائيل على لسان وزرائها وقادتها العسكريين خططًا علنية لإعادة احتلال قطاع غزة، والسيطرة عليه أمنيًا، وتشكيل إدارة محلية خاضعة، والتأسيس لـ”مناطق آمنة” ليست آمنة إلا لجيش الاحتلال والمستوطنين المحتملين ، كل هذا لم يعد تحليلًا ولا تخمينًا، بل سياسة رسمية يجري إعداد الأرض لها بالنار والدم والتجويع والتهجير القسري ..
الاحتلال الاستيطاني الجديد
تصريحات وزراء اليمين المتطرف مثل بن غفير وسموتريتش لم تعد تُطلق فقط من منصات هامشية، بل أصبحت تتغلغل في قلب القرار السياسي الإسرائيلي.
• سموتريتش دعا إلى إلقاء قنبلة ذرية على غزة صراحة.
• وبن غفير طالب باحتلالها وضمّها إلى إسرائيل، واستعادة الأرض من البحر إلى النهر .
• وها هو نتنياهو يتحدث عن حكم مدني بديل ، وهو تعبير ناعم عن حكم عسكري بالوكالة.
الخطة لا تتوقف عند الاحتلال العسكري، بل تشمل تهجيرًا متدرجًا، عبر حرمان القطاع من أدنى مقومات الحياة، ودفع الناس قسرًا إلى الهجرة الجماعية ، وهو ما بدأ فعليًا بموجات النزوح الداخلي، وبتسريبات مكررة عن دول “مضيفة” محتملة، في سيناء أو شمال إفريقيا أو حتى أوروبا.
لماذا هذا التحول؟
السبب بسيط: لأن إسرائيل فشلت في كل ما أعلنت أنها تحاربه ، لم تُنهِ المقاومة ، ولم تُحرّر أسيرًا بالقتال ، ولم تُعد الغلاف آمنًا، بل أنتجت كارثة استراتيجية متعددة الوجوه ، فلم تجد أمامها إلا هدفًا قديمًا كان يضمره عقلها الاستيطاني دومًا: السيطرة على غزة من جديد، كجزء من مشروع “أرض إسرائيل الكبرى”.
الاحتلال اليوم ليس خيارًا اضطراريًا، بل هروب إلى الأمام من هزيمة داخلية ، هو محاولة لتصدير الفشل، وخلق “نصر وهمي” عبر الجغرافيا لا عبر الواقع.
من يعرف إسرائيل جيدًا… لا يُفاجَأ
لهذا، فإننا منذ البداية ، لم نكن نحلّل في الفراغ ، نحن نعرف تركيبة هذه الدولة، وخطابها التاريخي، ومشروعها العقائدي ، نعرف أن غزة كانت دومًا شوكة في حلق المشروع الاسرائيلي، وأنها اليوم تتحول إلى شاهد على فشل الردع وعلى سقوط الرواية.
ما كان البعض يراه “مبالغة” في حديثنا عن التهجير والاستعمار، ها هو يتحول اليوم إلى سياسة موثقة، بتوقيع الحكومة الإسرائيلية ، وما كانت نبوءة، أصبح عنوانًا رئيسيًا في نشرات الأخبار.
اما سردية الهدنة التي قيل إنها قاب قوسين أو أدنى، تبيّن أن المسافة بين القوسين هي ذاتها المسافة بين الاحتلال والسلام، بين الحقيقة والدجل، بين الضحية والجلاد .
لقد كانت سردية “الهدنة” منذ بداية الحرب إلى هذه اللحظة ، مجرد مسكّن سياسي لإطالة أمد الحرب، وشراء الوقت لإسرائيل، وتطويع الرأي العام العربي والدولي ، وكأنها جزء من مسرحية بلا نهاية، يُعاد فيها نفس المشهد:
مفاوضات، تسريبات، وفود قادمة ، وفود مغادرة، تحفظات ، ضوء أخضر أمريكي، وفود اسرائيلية خالية الوفاق والصلاحيات ، ثم فجأة: “عقبة فنية جديدة”، أو “تفاصيل غير محسومة” او ” التحجج بان صاحب الحق لم يوافق ” وتُعاد الكرة ، حتى اصبحت مجرد سرد إعلامي وتسجيل مواقف.
تمامًا كما هي رواية “ألف ليلة وليلة”، تروى كل ليلة رواية جديدة لتأجيل نهاية الكابوس.
خلاصة القول
إننا نعيش اليوم لحظة الحقيقة: لحظة سقوط القناع عن المشروع الإسرائيلي، وانكشاف نواياه الاستعمارية من جديد، ولكن في زمن مختلف، وفي سياق مختلف، وفي مواجهة شعب لم يُهزم، بل ازداد عنفوانًا ووضوحًا في أهدافه ، مزروع في ارضه ، يقاوم العالم بأسره.
إسرائيل تعود إلى الاحتلال لأن كل البدائل فشلت ، لكن غزة، التي لم تسقط في الحرب، لن تسقط في الخديعة، ولا بالاحتلال ، ولا بالتجويع ولا بالإبادة.