العنف الجامعي لم يهبط علينا فجأة. هو النتيجة المنطقية لمسار طويل من التراخي والانحدار، بدأ حين تخلّت الجامعات عن وظيفتها الحضارية، واستبدلت رسالتها الفكرية بمشاريع تجارية تُقاس أرباحها بعدد المقاعد المبيعة، لا بعدد العقول المضيئة التي تُخرّجها؛ فبدلاً من أن تكون الجامعات منابر للفكر والحوار والتنوير، تحولت في كثير من الحالات إلى مسارح لعرض الجهل، تُمارس فيها العصبية والواسطة والبلطجة باسم الانتماء والرجولة.
في ظل هذا المشهد، يصبح من الطبيعي أن نرى مشاجرات جماعية تتحول فيها قاعات المحاضرات إلى ساحات معارك، تُرفع فيها العصي بدل الأقلام، ويُستبدل النقاش العلمي بالصراخ والتهديد. ذلك أن الطالب الذي لم يتعلّم في مدرسته كيف يختلف بأدب، وكيف يحاور بعقل، لن يتعلّم فجأة احترام الرأي الآخر حين يدخل الجامعة.
والعنف هنا ليس مجرد حادث عرضي، بل عرض لمرض أعمق يتمثل في غياب التربية، وانهيار منظومة القيم التي كان يفترض أن تحمي الحرم الجامعي من التحول إلى مرآة لكل علل المجتمع.
والأسوأ من ذلك أن الإدارات الجامعية، في كثير من الأحيان، ساهمت في تعميق الأزمة بسياسات استرضائية تُقدّم الهدوء الشكلي على الانضباط الحقيقي، وتتعامل مع التجاوزات باعتبارها أحداثًا يمكن احتواؤها بالوساطة لا بالقانون.
هكذا ترسّخ لدى الطلبة يقين بأن القانون مجرد نص يُستثنى منه الأقوياء، وأن الواسطة قادرة على إبطال أي عقوبة، وحين يغيب الردع، يصبح العنف خياراً عادياً، بل وسيلة لإثبات الوجود.
ولا يقل خطراً عن ذلك تفشي الفساد الأكاديمي بصوره المختلفة: أبحاث تُباع علنًا، امتحانات تُسهَّل سراً، وشهادات تُمنح بلا جهد ولا استحقاق. كيف نُقنع طالباً بعدالة القانون وهو يرى زميله يشتري بحثه في وضح النهار دون محاسبة؟ وكيف نطالب بخريج مثقف ناضج إذا كان نظام التعليم نفسه يربيه على الغش والتحايل؟
لقد تحوّلت بعض الجامعات إلى مصانع لإنتاج الشهادات لا الكفاءات، يقيس بعضها النجاح بعدد الخريجين لا بنوعيتهم، ويتغافل عن أن خريجاً واحداً صادق الكفاءة خير من ألفٍ نالوا شهاداتهم بالسلم الإداري. وحين يصبح التعليم سلعة، تنطفئ في القاعات شعلة الفكر، ويُستبدل البحث العلمي بالبحث عن الربح.
لا يمكن فصل العنف الجامعي عن البيئة الاجتماعية والسياسية التي تُغذّيه. فالعصبيات الجهوية وشعور الشباب بالتهميش كلها تتسلّل إلى الجامعة لتجد فيها مسرحاً مثالياً للتنفيس، وما لم تتحمّل الجامعات مسؤوليتها الأخلاقية في تحصين الطلبة ضدّ هذه العدوى الاجتماعية، فستظل البلطة تُرفع حيث كان يُفترض أن تُرفع الأفكار.
الحل ليس سهلاً ولا سريعاً، لكنه واضح. الخطوة الأولى: تطبيق القانون بلا محاباة. لا حصانة لطالب، ولا استثناء لجامعة. يجب أن يدرك الجميع أن العنف جريمة لا وساطة فيها، والجامعة التي تسمح بتكرار الفوضى هي شريكة في الجريمة، كما يجب إغلاق دكاكين الأبحاث التي تُفسد أخلاق التعليم وتُفرغ الشهادة من معناها.
الخطوة الثانية: إعادة بناء الوعي الجامعي؛ فلا بد من مناهج تُربّي على التفكير النقدي، لا على الحفظ الآلي، ولا بد من أساتذة يُدرّسون بالنقاش لا بالإملاء، ومن بيئة جامعية تحمي حرية الرأي لا تُعاقبها. ذلك أن التعليم الحقيقي لا يورّث خوفاً من السؤال، بل شغفاً بالحقيقة.
الخطوة الثالثة: استعادة مكانة الجامعة كفضاء وطني جامع، لا كمنبر للعصبيات والانقسامات. فلقد كانت الجامعات يوماً مصنعاً للوعي الوطني، ويمكن استعادة ذلك الزمن، لكن بشجاعة في المواجهة، وبإرادة سياسية وأكاديمية تعرف أن الصمت تواطؤ، وأن الإصلاح لا يبدأ من الخطابات بل من القرارات.
العنف الجامعي هو إنذار أخلاقي وثقافي واجتماعي، ومن لا يسمعه اليوم، سيسمعه غداً على شكل انهيار شامل في منظومة التعليم، تُخرّج لنا أجيالاً تعرف كيف ترفع السلاح أكثر مما تعرف كيف ترفع الفكرة.