بعد 700 يوم من حرب الإبادة في غزة، لن اتحدث عن ماذا حدث خلالها، حيث الصورة واضحة امام الجميع .. بل نستطلع ماذا بعدها ..
يمكن رسم ثلاثة مسارات استراتيجية محتملة، يفرضها توازن القوى بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، ويتأثر بها الإطار الدولي والإقليمي:
1- سيناريو الاستنزاف الطويل
المؤشرات الحالية ترجّح استمرار حرب الاستنزاف الحضري ، المقاومة، رغم الحصار والضغط المعنوي والنفسي عليها ، أظهرت قدرة على إعادة التكيف مع بيئة مدمرة، مستخدمة أساليب حرب الأنقاض ، الكمائن المتسلسلة، والمناطق المحضّرة للتفجير ، المواجهة الفردية والزوجية ، حرية العمل المفتوحة، واستخدام كل ما هو متاح واستغلال كل فرصة ، استمرار هذا النمط يعني أن إسرائيل ستجد نفسها في مواجهة نزيف بشري ومعنوي مستمر، يُضعف جبهتها الداخلية، ويُبقي جيشها في حالة استنفار دائم ، هذا السيناريو يقوّض خطاب “الحسم السريع الذي يتحدث عنه نتنياهو من سنتين ” ويعيد إنتاج تجربة لبنان 1982 ولكن ببيئة أكثر كثافة سكانية وتعقيدًا.
2- سيناريو فرض تسوية دولية
الضغط الدولي يتزايد، خاصة مع انقسام المواقف داخل أوروبا والولايات المتحدة، وبروز أصوات ترى في استمرار الحرب تهديدًا للاستقرار الإقليمي والمصالح الغربي ، هذا قد يفتح الباب أمام محاولة فرض تسوية سياسية، غالبًا عبر مسار حل الدولتين أو صيغة انتقالية تُبقي غزة تحت “إدارة محلية مدعومة إقليميًا”. في هذا السيناريو تصبح الدول العربية، خصوصًا المطبّعة مع إسرائيل او تلك التي ترتبط معها باتفاقيات سلام ،اصبحت أدوات ضغط مباشرة لانتزاع تنازلات من تل أبيب وتسويات معها ، مقابل الحفاظ على شراكاتها الإقليمية او اندماج حقيقي مع الاقليم والعيش بسلام جنباً إلى جنب مع دولة اسرائيل..مستغلين تنامي المعارضة الداخلية في اسرائيل، والانحسار الدبلوماسي العالمي لها ، والحصار الدولي الذي بدأ يتكاثف بوضوح عالمياً.
3- سيناريو الحسم الإسرائيلي بالنار والحديد ..
يبقى مطروحًا أن تحاول إسرائيل الذهاب نحو الحسم العسكري المطلق عبر إعادة احتلال كامل القطاع او الجزء الشمالي منه والذي يستعد له الان ، في عمليات القصف التدميري لكل ما بقي من منشآت ومناطق سكنية وبقايا بنايات وعمارات تأوي آلاف المدنيين ، ودفع التهجير الداخلي والخارجي قسرًا. لكن هذا السيناريو، ورغم أنه قد يُحقق “إنجازًا جغرافيًا”، إلا أنه يواجه معضلة مزدوجة:
• عسكريًا: السيطرة على الأرض لا تعني إنهاء المقاومة، بل قد يُدخل الجيش في مستنقع حرب عصابات حضرية مفتوحة، مستمرة لا ولن تنتهي .
• سياسيًا: سيفجّر بل فجر أزمة دولية، خاصة مع تعاظم الخطاب الحقوقي الذي يُصنّف ما يجري في غزة كـ ( جريمة إبادة جماعية) .
معركة وجود لا معركة حدود
التقدير الاستراتيجي يظهر أن الحرب لم تعد مجرد مواجهة عسكرية حول حدود غزة، بل تحولت إلى معركة وجود على المستويات كافة:
• وجود الشعب الفلسطيني وقدرته على الصمود في وجه محاولات الاقتلاع.
• وجود المشروع الصهيوني ذاته الذي يتآكل تحت ضغط المقاومة، الانقسامات الداخلية، وفقدان الشرعية الدولية.
• ووجود نظام دولي يُختبر أمام تناقضاته، بين خطاب حماية القيم الإنسانية، وواقع الصمت أمام 125 ألف طن من المتفجرات ألقيت على بقعة صغيرة محاصرة ، اصبحت بلا حياة رغم التمسك الأسطوري بوجود الحياة ..
بذلك، فإن غزة اليوم ليست مجرد ساحة قتال، بل مختبر استراتيجي يُعيد تعريف موازين الردع، ويضع الجميع – من إسرائيل إلى العواصم الغربية والعربية – أمام سؤال جوهري: إلى أي مدى يمكن أن يستمر تجاهل إرادة شعب يسعى للحرية مهما بلغت كلفة الإبادة؟