“أنت صخر، وعلى هذا الصخر سأبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها” يسوع مخاطبًا بطرس، في إنجيل متى 16: 18 ولبطرس حواري المسيح عليه السلام والذي أعدم عام 64م في روما في عهد الامبراطور نيرون؛ تنتسب كنيسة روما (الفاتيكان) ويعتبر هو البابا الأول.
رحم الله البابا فرنسيس، خورخي ماريو بيرجوليو (1936 – 2025) كان رئيسا فريدا للفاتيكان، متواضعا مؤمنا بالعدالة، كان في مقدوره ان يكون البابا عام 2005 لكنه انسحب من التنافس، ثم انتخب عام 2013، تخلى عن مقر البابوية الفخم، وأقام في شقة متواضعة، وتخلى عن الليموزين المخصصة له ليستخدم وسائل النقل العام او سيارة كهربائية صغيرة يقودها بنفسه، وكان على علاقة طيبة وثيقة بالمسلمين والعرب في الأرجنتين، وظلت علاقته بالمسلمين وقادتهم ومفكريهم ودية وثيقة. وكان أول بابا يخصص الخميس المقدس ليطوف على المساجين والفقراء والمرضى من المسيحيين وغير المسيحيين ويواسيهم ويغسل أقدامهم.
وبرغم زهده فقد كان مؤمنا بالحياة مقدرا لها، يحب الفنون ويتابع كرة القدم بشغف.
وكان فاعلا في العمل لأجل الحريات والعدالة والبيئة حتى إنه اعتبر تأييد الدكتاتورية خطيئة. ولد البابا فرنسيس الأول في الأرجنتين عام 1936 وترأس مجلس أساقفة الأرجنتين عام 2005، وكان يسمى كاردينال الفقراء، وكان يسير في الشوارع ويستمع إلى الناس ويعلمهم، ونشرت له صورة وهو يقبل قدم طفل مصاب بالسرطان.
يعرض فيلم the two popes سيرة فريدة ممتعة للبابا فرنسيس. وقد أنتج الفيلم عام 2019 ويقدم جدالات عميقة ملفته بين البابا فرنسيس والبابا بينديكست السادس عشر (جوزيف راتزنغر 1927 – 2022) ففي حين يقدم فرنسيس/ بيرجوليو رؤية فلسفية ومسيحية صلبة لتفسير اللاهوت الليبرالي والاجتماعي فإن بينديكت/ راتزنغر أستاذ الفلسفة في الجامعات الألمانية يملك أيضا رؤية فلسفية متراكمة وعميقة في التفسير الفلسفي للاهوت المحافظ والتقليدي. كان حوارا فلسفيا عميقا وممتعا، نجح المؤلف والمخرج في تقديمه سينمائيا وسرديا، وتضمن الفيلم مشاهد طريفة للبابا فرنسيس، الشغوف بكرة القدم والمشجع للمنتخب الأرجنتيني ونادي برشلونة، وقد حضر الإثنان بينديكت وفرنسيس حسب الفيلم مباراة بين الأرجنتين وألمانيا، وفي حين كان فرنسيس منفعلا مع فريقة ويهتف ويعلق ويقف أحيانا يصفق فرحا في حين يجلس بينديكت وقورا مبتسما أحيانا بصعوبة. ومن المشاهد الطريفة يعرض الفيلم البابا فرنسيس يتناول وجبة بيترا جالسا على مقعد في مطعم شعبي على الرصيف. وفي مرة يتصل بمكتب طيران ليحجز للسفر، تسأله الموظف عن اسمه فيقول خورخي ماريو بيرغوليو، تقول له إن اسمك مثل اسم البابا، فيقول أنا البابا. فتغلق الفتاة الهاتف في وجهه.
كنت قد نشرت في عام 2013 عندما انتخب البابا فرنسيس رئيسا للفاتيكان” قلت فيها إن الكاردينال فرنسيس الأول (خورخي ماريو برغوليو) ليس أول بابا من خارج أوروبا فقط ولكنه الأول من الآباء اليسوعيين الذي يتبوأ المنصب، وربما يعني ذلك الكثير في توجهات واهتمامات الكنيسة الكاثوليكية، المؤسسة الدينية الأكبر، والتي يتبعها أكبر عدد من اتباع الاديان في العالم، وربما يؤثر ذلك على اتجاهات العالم بدوله ومجتمعاته، فالكاردينال فرانسيس شأن قادة الكنيسة الأمريكيين الكاثوليك يرى التدين في التعلم والتعليم والتقشف والزهد والعمل الاجتماعي ومناصرة الفقراء والعدالة الاجتماعية.
نشأت اليسوعية في القرن السادس عشر على يد “اغناتيوس لويولا” والذي وجد جامعة باريس عندما سافر إليها من اسبانيا تضج بالإهمال والفوضى والسمعة السيئة لطلابها، فأسس جمعية دينية سماها “جمعية يسوع/ Society of Jesus” بهدف الإصلاح الديني والاجتماعي والتعليمي والعودة إلى التعاليم السامية التي نادى بها المسيح عليه السلام، ونجحت الجمعية في بناء نظام تعليمي لم تعرفه أوروبا من قبل من حيث جودته ورقيه وتقدمه، باعتبار التعليم كما ينص دستور الجمعية هو الأساس المتين الذي يبنى عليه المجتمع المتقدم الصالح، ووضعت الجمعية منهجا مفصلا في مئات الصفحات يوضح ما يتعلق بالعملية التعليمية من المناهج والامتحانات لجميع المراحل وطرق التدريس والمخططات المعمارية للمدارس والكليات، وصارت المدارس والكليات اليسوعية مقصدا للطلاب من أبناء جميع الطبقات باعتبار التعليم اليسوعي هو الأفضل، وبالفعل فقد أسست اليسوعية للنهضة الأوروبية وبخاصة في الموسيقى التي تعتبرهااليسوعية غذاء ضروريا للروح، ومن الجامعات التي أسسها اليسوعيون جامعة جورج تاون ونوترادام والقديس يوسف في بيروت، وكلية بوسطن، وساهم اليسوعيون في تطوير اللغات الآسيوية والترجمة إليها، وقدمت المطبعة اليسوعية في القرن التاسع عشر الى الثقافة والعلوم العربية عددا كبيرا من الكتب، ووضعوا الألفباء الفيتنامية، وقدموا إلى العالم اسهامات علمية في الفلك والطب والرياضيات وتقنية، مثل ساعات البندول، والبارومتر، والتلسكوب والمجهر.
وتميز رجال الدين اليسوعيون في القارة الأمريكية بالعدالة الاجتماعية ومناصرة الفقراء والتصدي للاستبداد والإقطاع والظلم، وتعرض عدد كبير منهم للسجن والاضطهاد بسبب نضالهم الاجتماعي.
وقد نشرت في العام 2006 دراسة مطولة عن الدين في أمريكا اللاتينية، وذكرت فيها أن شعار الكنيسة الكاثوليكية في البرازيل والتي كانت تدير في اوائل الثمانينات 8000 جمعية كنسية تعمل كتنظيمات شعبية بين الطبقات الفقيرة “الكنيسة صوت من لا صوت له”
في البرازيل تبنت الكنيسة هوية جديدة بوصفها “كنيسة الشعب”، وكان لذلك دور كبير في التحول الديمقراطي، ولكن هذه الهوية وجدت نفسها برأي خوسيه كازانوفا مؤلف كتاب الأديان العامة في العالم الحديث في صراع مع الواقع التعددي للمجتمع المدني البنيوي ومع واقع البنى المهنية النخبوية للمجتمع السياسي.
وقد بدأ الخلاف بين الدولة والكنيسة في البرازيل في القرن التاسع عشر بعدما كانت الكنيسة مؤسسة تابعة للدولة في البرازيل ومن قبل للتاج الإسباني، ولكن جرت تسوية هذه الخلافات وأعيدت الكنيسة إلى التضامن مع السلطة.
ولكن الحركات الاجتماعية التي نشأت في البرازيل وبخاصة بعد سياسات إهمال الريف وتجاهل الفقراء شملت الكنيسة لتشارك في برامج الإصلاح الزراعي والانحياز لخيار الفقراء مما جعلها توصف بأنها “كنيسة الشعب” بل وتحول أساقفة الكنيسة إلى دعاة راديكاليين يهاجمون الأوضاع غير الإنسانية للفقراء والمزارعين، بل ويدعون علنا إلى الاشتراكية ومناهضة الرأسمالية.
وساهمت الكنيسة في تشكيل ونشأة الحركات النقابية الريفية، ومواجهة الحكم العسكري الذي جاء نيتجة انقلاب عام 1964 وبدأت مواجهة قوية بين الكنيسة والدولة موضوعها حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية.
وكان رد الكنيسة على سياسات الحكومة والاستثمارات الرأسمالية التي أدت إلى نشوء هجرة واسعة من الريف إلى المدن وقيام أحزمة البؤس حولها بمساعدة الهنود والريفيين على تنظيم أنفسهم، وتقديم الدعم والحماية لهم في مواجهة الإقطاعيين والسلطات المحلية والمركزية والشركات الاستثمارية.
وأنشئت أيضا مؤسسات كنسية من الأساقفة لهذه الأغراض، مثل اللجنة الرعوية لشؤون العمال والسكان الأصليين (الهنود) ولجنة العدل والسلام لتنسيق النشاطات الإنسانية والاجتماعية والنقابية، والعمل السياسي والإعلامي في مواجهة التعذيب والفساد وانتهاكات حقوق الإنسان.
ومع بداية الثمانينات كان يعمل في البرازيل حوالي ثمانية آلاف جمعية كنسية كانت تعمل كتنظيمات شعبية بين الطبقات الفقيرة بين البرازيليين البالغ عددهم حوالي 150 مليونا يعاني نصفهم على الأقل من الفقر ويعيشون على الهامش، وتعتبر الكنيسة هناك صوتهم الأساسي في مواجهة حالة لا يجدون فيها تمثيلا لآرائهم واهتماماتهم، فالكنيسة كما توصف هناك “صوت من لا صوت له”.
وبالمناسبة فقد اختير السوري المولد غريغوري الثالث لمصب البابوية في عام 731م.