في زمنٍ كنا نظن فيه أن التحول الرقمي سيحرر الإنسان، ويجعل الحكومة أقرب، والخدمات أسهل، تبيّن أن التكنولوجيا قد تُصبح وجهًا جديدًا للبيروقراطية. لا بيروقراطية تقليدية ترتدي البزّات الرمادية وتطلب الأختام والمراجعات، بل بيروقراطية رقمية صامتة، لكنها أشد ضراوة. هكذا وُلدت الإلكتروقراطية، أي نظام تُمارَس فيه السلطة والإدارة عبر أدوات التكنولوجيا، لكن بروح بيروقراطية أكثر إحكامًا.
لطالما حلمنا بحكومات بلا طوابير، بلا أوراق، بلا توقيعات. لكننا لم ننتبه إلى أن هذا الحلم ذاته قد يُدار بعقلية “نسخة رقمية من القيد”، لا من التحرير. لم تختفِ البيروقراطية كما زعمت الليبرالية الجديدة، بل تعاظمت بشكل آخر: من بيروقراطية المكاتب إلى بيروقراطية التطبيقات. فبدلاً من نموذج ورقي واحد يتطلب التوقيع، صار على المواطن أن يمرّ بـ12 خطوة إلكترونية، بكلمات سر، ورسائل تحقق، وتعليمات مبهمة، وأحيانًا… خلل تقني يُعيدك إلى نقطة البداية.
الإلكتروقراطية لا تُقصي المواطنين فحسب، بل تُعيد تشكيل علاقتهم بالحكومة. فالمواطن في هذا السياق لم يعد شريكًا ولا مستفيدًا، بل “بيانًا رقمياً” يُقاس أداؤه عبر نظام نقاط، أو تصنيف، أو مؤشرات خدمة لا تراعي السياق الإنساني، ولا تسمع الشكوى. كل شيء صار قابلاً للقياس، وبالتالي قابلاً للتحكم.
والأخطر أن هذه الرقمنة لم تكن تحريرًا للناس، بل تكبيلًا ذكيًا لسلوكهم. فالتكنولوجيا – كما تُستخدم اليوم – لا تُحرر الوقت، بل تراقبه؛ لا تُسهّل، بل تُعقّد. لأنها تتعامل مع المواطن كـ”مستخدم”، لا كإنسان. فأنت مضطر لتسجيل الدخول، وتأكيد رقمك، والموافقة على الشروط، ومشاركة موقعك، وإلا… فستُقصى. حتى أبسط حقوقك – كالتواصل، أو الدفع، أو تقديم شكوى – باتت مرهونة بـ”واجهة إلكترونية” قد لا تفهمك، لكنها تحكم عليك.
وإن لم تواكب هذه الواجهة الرقمية؟ فلك أن تعيش على هامش العالم: تُحرم من الخدمات، تُعلَّق معاملتك، يُحوَّل رقمك لغيرك، وتُعاقب بلا قاضٍ.
تزرع الإلكتروقراطية في مؤسساتنا ما يمكن تسميته بـ”حوسبة الهيمنة”. فبدل أن تكون الحكومة الرقمية وسيلة للتمكين، تصبح أداة للتفاوت. تتحول العدالة إلى سلسلة من الشروط الرقمية الصارمة، وتُفرض على الجميع باسم الكفاءة، بينما تُستثنى منها المؤسسات الكبرى التي تستطيع التفاوض، أو حتى تعديل النظام ليلائم مصالحها.
تصفير البيروقراطية الحقيقي لا يعني “أتمتة القيد”، بل تحرير النظام الإداري من جذور الظلم والتعقيد. وهو ليس مشروعًا تقنيًا فقط، بل مشروع ثقافي، أخلاقي، وإنساني في جوهره. فلا جدوى من واجهات ذكية تُخفي خلفها “قلوبًا إدارية باردة”.
إن معركتنا اليوم ليست فقط ضد البيروقراطية الورقية، بل ضد “الإلكتروقراطية المموّهة” التي توهمنا بالخفة والسهولة، بينما تمارس أقسى أشكال التحكم.
لكن وسط هذا المشهد العالمي المتعاظم، يلوح أمل حقيقي في بعض المبادرات الواعية. في الأردن، نشهد اليوم توجهًا نحو توحيد التطبيقات الحكومية في بوابة واحدة تحت اسم “سند” – وهي خطوة تُدرَك قيمتها حين نُدرك حجم التشظي الرقمي الذي يُرهق المواطن بدل أن يُيسّر حياته.
“سند” ليست مجرد منصة تقنية، بل رؤية لإعادة ترتيب العلاقة بين المواطن والدولة. فهي تعترف بأن تعدد الواجهات الرقمية يخلق بيروقراطية جديدة بدل أن يُنهي القديمة. عبر “سند”، يسعى الأردن لتقديم تجربة حكومية متناغمة، تُعيد الإنسان إلى المركز، وتمنح الخدمة روحها.
إن مشروع تصفير البيروقراطية لا يكتمل إلا حين تصبح التكنولوجيا وسيلة للرحمة لا للرقابة، وأداة للتمكين لا للتمويه. فالرهان الحقيقي ليس على الذكاء الاصطناعي، بل على ذكاء المؤسسات ورشاقتها، ووعيها بأن كرامة الإنسان هي أعظم ما يمكن أن تُصمَّم لأجله السياسات والتطبيقات.
“سند ليس كافيًا إن لم يُسند الإنسان أولًا.”