لم تعد صناعة السياسات العامة شأنًا حكوميًا مغلقًا كما كانت في الماضي. فالمواطن اليوم لم يعد مجرد متلقٍ لقرارات تُصاغ خلف الأبواب المغلقة، بل أصبح طرفًا فاعلًا في صياغة السياسات وتوجيهها، بل وأحيانًا في تصحيح مسارها. المشاركة العامة لم تعد ترفًا ديمقراطيًا، بل ضرورة لضمان شرعية القرار وفعاليته وعدالته.
في عالمٍ تتسارع فيه التحديات، ويزداد فيه الضغط على صُنّاع القرار، تصبح المعلومة الدقيقة والموجزة والعمل السريع عناصر حاسمة في توجيه السياسات. ولهذا، فإن أدوات مثل المذكرات المختصرة وبيانات الرأي والقرارات الجماعية تلعب دورًا حاسمًا في نقل صوت المجتمع بوضوح إلى صانع القرار. ما يجعل هذه الأدوات مؤثرة ليس حجمها ولا تفصيلها، بل توقيتها ودقتها وقدرتها على التكيف مع السياق السياسي والإداري.
أحد أكثر المشاهد قوة في هذا المسار هو لحظة شهادة مواطن أو خبير في جلسة استماع عامة. خمس دقائق من الكلام الواضح والمُعد بعناية قد تغيّر مجرى نقاش سياسي بأكمله. إنها لحظة يكون فيها الصوت الإنساني حاضرًا أمام صُنّاع القرار، محمّلًا بالتجربة، أو المعرفة، أو الغضب، أو الأمل. هذه الجلسات ليست مسرحًا بروتوكوليًا، بل مساحة ديمقراطية حقيقية يمكن أن تُسمِع من لا صوت لهم.
وعندما تُطرح لوائح أو تشريعات جديدة، يُفتح باب التعليقات العامة رسميًا. هذه العملية التي قد تبدو شكلية للوهلة الأولى، هي في الواقع من أقوى أدوات التأثير على السياسات. فكل تعليق يصل إلى الجهة المختصة يُسجّل رسميًا، ويُراجع، وقد يكون سببًا في تعديل أو حتى إلغاء نص قانوني. وقد أثبتت التجارب أن التعليقات الموضوعية والمدعومة بالأدلة والبدائل العملية تُعامل بجدية أكبر من أي صيحات احتجاج عشوائية.
لكي يكون الصوت مسموعًا، لا بد أن يكون مركزًا وواضحًا وصادقًا. فالرأي الذي يأتي من تجربة مباشرة أو من مؤسسة ذات خبرة، والمدعوم بحجج وأرقام واضحة، يمتلك قوة لا يمكن تجاهلها. وعندما يقترن هذا الرأي ببدائل واقعية وقابلة للتنفيذ، فإنه يتحول من مجرد موقف إلى عنصر فاعل في صياغة القرار..
المشاركة العامة ليست ترفًا ديمقراطيًا ولا مجرد تمرين شكلي على الإصلاح. إنها أداة حقيقية لتقريب المسافة بين المجتمع والدولة، بين الرأي والقرار، بين المواطن وصانع السياسة. إنها الجسر الذي يحوّل التجربة الفردية إلى قوة جماعية، والصوت الصغير إلى صدى في قاعة القرار. وعندما يفهم المواطن قوة صوته، ويستخدمها بوعي ومسؤولية، يصبح شريكًا حقيقيًا في صناعة مستقبل بلده.