في زمنٍ تتبدّل فيه التحالفات، وتُعاد فيه هندسة الإقليم على مرأى الجميع، لم تَعُد الجغرافيا كفيلة وحدها بحماية الدول، ولم يَعُد التاريخ يشفع لمن لا يمتلك أدوات القوة والتأثير.
الشرق الأوسط الجديد يُرسم الآن، وبصورة متسارعة ومرعبة، لا على طاولة العرب، بل في عواصم القرار العالمي، وعلى وقع صفقات المصالح وقصف الصواريخ.
وفي منتصف هذا المشهد المرتبك، يقف الأردن على مفترق خطير، وقد يُصبح الحلقة الأضعف في الترتيب الإقليمي ما لم يُحدّد لنفسه دورًا فاعلًا واستراتيجيًا، يُبرّر وجوده، ويُعزّز مكانته، ويحمي استقلال قراره الوطني.
وفي ظلّ هذه المعادلة الشرسة، تبرز الحاجة المُلحّة إلى إصلاح سياسي حقيقي، عاجل وعميق، يبدأ من بوابة الأحزاب. فالدول الكبرى، كما تُظهر التجارب القريبة، قادرة على تنصيب رؤساء بلا تاريخ، وإنتاج شرعيات مصنّعة في غضون أربع وعشرين ساعة، عبر الإعلام وتفاهمات المخابر لا صناديق الاقتراع. وهذا الواقع المرير يُحتم علينا التمسّك بقيادتنا الهاشمية كصمام أمان، ولكن أيضًا من خلال وحدة وطنية متماسكة تُترجم سياسيًا عبر أحزاب حقيقية، تمثل مختلف الاتجاهات الفكرية من يمين ويسار ووسط، وتُفرز قيادات وطنية وازنة تمتلك الرؤية، والكفاءة، والشرعية الشعبية.
الحياد لم يعد كافيًا، والانكفاء لم يَعُد خيارًا. المطلوب الآن هو إعادة تعريف الدور الأردني من منطق الفعل لا ردّ الفعل، ومن قلب الداخل القوي، لا من هامش المراقبة الصامتة.
إن تجارب الدول الكبرى تؤكد أن النهوض لا يتم بالخطب ولا بالمناسبات. فألمانيا بنت نهضتها على أحزاب راسخة وبرامج صارمة، وبريطانيا تخطت أزماتها بثقل مؤسساتها الحزبية، والولايات المتحدة تُدار بمنظومة حزبية تضمن الانتقال السلمي للسلطة، وتحفظ توازن الدولة رغم تقلب الحكومات.
أما نحن، فما زالت أحزابنا في طور التكوين، تفتقر إلى الاتجاهات الفكرية الواضحة، وتعاني من ضعف التجذر الشعبي، ويكاد حضورها يكون رمزيًا أكثر منه فاعلًا. وقد آن الأوان لتحويل هذا الضعف إلى نقطة انطلاق، من خلال تحديث حزبي جاد يُنتج برامج قطاعية واضحة تعالج ملفات الاقتصاد والتعليم والصحة والنقل والعمل وغيرها، وتربط السياسة باحتياجات الناس لا بشعارات لا تُطعم ولا تحمي.
لا تحديث سياسي بلا أدوات حزبية حقيقية، ولا اقتصاد يصمد دون استقرار سياسي، ولا وطن ينهض إذا بقيت النخب تُعاد تدويرها بلا مساءلة أو تجديد.
وفي هذا الظرف الحرج، تستدعي الحاجة إلى عقد مؤتمر وطني رفيع ومحدود، يُجمع فيه عمالقة السياسة الأردنية، ممّن عُرفوا بالإخلاص والخبرة، لصياغة خارطة طريق واضحة ومُلزمة، تنسجم مع رؤية التحديث السياسي والاقتصادي التي أطلقها جلالة الملك، وتؤسس لمرحلة جديدة من العمل الجماعي المنظم، تحت مظلة القيادة الهاشمية، وبشراكة شعبية فعلية لا رمزية.
إن مشروع التحديث الشامل الذي يقوده جلالة الملك لن يكتمل دون تبنٍّ حقيقي من الأحزاب، ولا دون انخراط فعّال من النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية، على قاعدة واحدة واضحة: لا نهضة دون مشاركة، ولا مشاركة دون أحزاب، ولا أحزاب دون قيادات تُقنع الداخل وتُخاطب الخارج.
الفرصة لا تزال ممكنة، لكنها ليست مفتوحة إلى الأبد. فالأردن الذي نحبه لا يليق به أن يكون متلقّياً للقرارات، بل صانعًا لها، فاعلًا في محيطه، ومرجعًا في استقراره. وتحت الراية الهاشمية، وبوحدة وطنية صادقة، وبإرادة سياسية شجاعة، يمكننا أن نصوغ دورًا إقليميًا فاعلًا، ونبني في الداخل دولةً منتجة، تُحترم في الخارج وتُحتضن في وجدان أبنائها. وإذا ادلهمّتْ خطوبُ الدربِ واتّسعتْ…ففي الأردنِّ قلبٌ لا يلينُ ولا يَفترُ…