Home اختيارات رئيس التحرير“ممر داوود” .. بين قداسة النصوص وتلاعب السياسة

“ممر داوود” .. بين قداسة النصوص وتلاعب السياسة

د. عبير الرحباني

by editor
17.7K views
A+A-
Reset

حين يختلط المقدّس بالسياسي.. تتيه الحقيقة بين النصوص والتأويلات.. وفي خضم ضجيج الإعلام برز مصطلح (ممر داوود).. وكأن التاريخ والكتاب المقدس قد صاغاه، بينما في الواقع لا أثر له بين أسفار العهدين القديم والجديد، بل هو صناعة إعلامية تُقحم أنبياء العهد القديم في ساحات لا تليق بقداستهم..

وعند العودة إلى نصوص العهدين القديم والجديد من الكتاب المقدس، لا نجد أي ذكر أو إشارة لمصطلح يسمى “ممر داوود”.. فلا في سفر صموئيل ولا في المزامير ولا في الأسفار التاريخية وأنبياء العهد القديم يوجد شيء بهذا الاسم..

فالكتاب المقدس يذكر الملك داوود كقائد وشاعر وملك بحسب قلب الله، ويعده الرب بأن نسله وملكه سيستمر إلى الأبد بحسب (2 صموئيل 7)، لكنه لم يذكر شيئا اسمه “ممر” أو طريق سياسي أو جغرافي بهذا المعنى.

إذن، المصطلح ليس كتابياً ولا نصا مقدسا.. بل هو مستحدث إعلامياً..

ونتساءل.. ! كيف ظهر مصطلح “ممر داوود” في الإعلام؟!..

إن وسائل الإعلام العربية والإقليمية بدأت تتداول في السنوات الأخيرة مصطلح “ممر داوود” لوصف مشاريع أو تصورات استراتيجية منسوبة للسياسات الإسرائيلية.. والفكرة تدور حول مشروع يربط مرتفعات الجولان المحتلة بمناطق أخرى في سوريا والعراق، بهدف خلق ممر جغرافي- سياسي.. يخدم ما يُسمى أحيانا بـ”إسرائيل الكبرى”..

إذن، “ممر داوود” ليس اقتباسا توراتيا أو إنجيليا، بل هو مصطلح إعلامي- سياسي.. صاغته التحليلات الصحافية لوصف تلك المخططات..

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا !! هل صرّح نتنياهو بهذا المصطلح ؟..

قبل الإجابة .. فمن المهم التوضيح .. بأن بنيامين نتنياهو لم يستخدم مصطلح “ممر داوود” بشكل مباشر أو رسمي في خطاباته أو كتبه.. ولم يصرح عن “ممر داوود” لا في الأخبار العبرية ولا الغربية ولا العربية.. ولا يوجد أي خطاب رسمي أو مقابلة أو تصريح مكتوب لنتنياهو يذكر هذا المصطلح بالاسم.. على الرغم من خطابه المتكرر عن “أرض إسرائيل التاريخية”.. لكنه صرّح علنا بمصطلح “ممر داوود”.. فكل ما في الأمر أن بعض المقالات والتحليلات الإعلامية والسياسية نسبت هذا المفهوم إلى رؤيته التوسعية، وربطتها بالرؤية التوسعية والخطط استراتيجية في المنطقة.. من دون وجود دليل مباشر أو تصريح رسمي منه.. بل إن كتابه “مكان تحت الشمس” يوضح فكرته عن الإمتداد التاريخي للأرض الموعودة..

فنجد في كتابه “مكان تحت الشمس” بأنه تحدث عن “أرض إسرائيل التاريخية” وأشار إلى أن إسرائيل الحالية تمثل جزءا صغيرا مما يعتبره اليهود أرضا موعودة، لكنه لم يستخدم عبارة “ممر داوود” إطلاقا..

إذن، هناك فرق بين ما تقوله وسائل الإعلام وما يُصرّح به نتنياهو مباشرة..

وعلى الرغم من أن “ممر داوود” غير موجود كتابياً في الكتاب المقدس.. إلا أن الإعلام استعار اسم (داوود) لأنه رمز من رموز العهد القديم..

فالملك داوود كان ملكا وُصف بأنه “حسب قلب الله”.. مما جعلت وسائل الإعلام اسمه رمزا لأي مشروع يُراد له صبغة دينية أو تاريخية..

ولا بد للإشارة هنا.. إلى أنه يجب التأكيد بأن الكتاب المقدس لم يربط الملك داوود بممرات جغرافيةـ سياسية، بل ربطه بالعهد الروحي ونسل المسيح الذي سيأتي منه..
وكل ما حصل هو أن بعض وسائل الإعلام العربية من (مقالات تحليلية أو رأي سياسي) استخدمت هذا التعبير لوصف مشروع توسّعي إسرائيلي محتمل.. وألصقته برؤية نتنياهو حول “إسرائيل الكبرى”.. بمعنى أن الإعلام هو الذي صاغ المصطلح وربطه بنتنياهو، لكن نتنياهو شخصياً لم يتحدث عن “ممر داوود” اطلاقا..

فلا يليق بوسائل الإعلام أن تُقحم أنبياء العهد القديم في معادلات السياسة، فالملك داوود كان ملكا بحسب قلب الله، لا بحسب أطماع الممرات، ومن الظلم أن يُختزل رمز العهد الإلهي في مصطلح سياسي عابر اسمه “ممر داوود”..

فلا شك بأن التحليلات الإعلامية هي التي اخترعت هذا المصطلح لتصف مشاريع جيوسياسية إسرائيلية، خاصة تلك التي تتحدث عن ربط الجولان بمناطق أخرى في سوريا والعراق ضمن ما يُسمى برؤية “إسرائيل الكبرى”..

لذلك فإن مصطلح “ممر داوود” هو نتاج خيال سياسي وإعلامي أكثر منه حقيقة تاريخية أو دينية..

ومن هنا.. يصبح واضحا أن ربط هذا التعبير “ممر داوود” لا يقوم على أساس نصي.. بل على إسقاط إعلامي..

فلماذا إختارت وسائل الإعلام ممر داوود ؟! .. أو وإن جاز التعبير .. لماذا إستغلت وسائل الإعلام الرموز الدينية والملك داوود هذه الشخصية المحورية في الكتاب المقدس.. ورمزٌ للعهد الإلهي والعدل والملك المذكور في الكتاب المقدس.. وإستعارت بمصطلح “ممر داوود” ؟! .. والذي تمنح فيه أي مشروع سياسي غطاءً تاريخياً ودينياً..

لكن الحقيقة تبقى أن هذا إسقاط ظالم بحق الملك داوود.. لأن “داوود الملك” لم يكن سياسيّاً توسعياً.. بل ملكاً أقام العدل وسبّح الله بمزاميره..

فلا يجوز لوسائل الإعلام أن تقحم رموز العهد القديم في معارك سياسية آنية… فالملك داوود ليس ممرا ولا معبرا.. بل هو رمزٌ مقدس للعلاقة بين الله وشعبه.. وكل محاولة لتسييسه هي تشويه للمعنى الروحي وإساءة لجوهر الكتاب المقدس.

و”ممر داوود” ليس أكثر من مصطلح إعلامي وُلد في عقول المحللين، لا في النصوص المقدسة.. والمطلوب اليوم أن نميّز بين قداسة الكلمة وسطحية الخطاب السياسي.. فلا نسمح أن يُختزل أنبياء العهد القديم المذكورين في الكتاب المقدس في مشاريع جغرافية عابرة.. لأن أنبياء العهد القديم خُلقوا ليعلنوا مشيئة الله، لا ليُستعملوا كعناوين في نشرات الأخبار.. ويستغلوا كمصطلحات عبر وسائل الإعلام.

You may also like

Leave a Comment

Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00