واأسفاه على العدل إذا غاب رجاله! واحسرتاه على الدستور إذا انطفأت مناراته! وويلٌ للأمة إذا رحل فقهاؤها العظام وبقيت القوانين يتيمةً بلا آباء!
أيها السامعون… أنصتوا! فهذا مقام لا يليق فيه إلا الصمت المهيب، والقلوب وقوفاً، والعقول خاشعة. لسنا اليوم أمام ذكرى رجلٍ عادي، بل أمام غياب قامةٍ إذا ذُكرت خجلت القمم، وأمام اسمٍ إذا تردّد في المجالس ارتجفت الكلمات، وأمام علمٍ لو مُسحت آثاره من الورق لانطفأ نصف التاريخ.
أيها العظيم، يا محمد الحموري… يا ابا طارق …
كنتَ فينا دستوراً يمشي على قدمين، وعدالةً تنطق بلسان عربي مبين. كنتَ فقيهاً في النصوص، لكنك أعمق من النصوص، ومفسّراً للقوانين، لكنك أوسع من القوانين. كنتَ محكماً دولياً، ولكن حكمك كان أعدل من كل محكمة، وأصدق من كل منصة.
أسستَ أول كلية حقوق في الجامعة الأردنية، فأسستَ معها أجيالاً من العقول، وبنيتَ من الجامعة قِبلة للفكر ومئذنة للمعرفة. تقلدتَ الوزارة، فتركتها، واعتليت المناصب، فزهدتَ فيها، لم يغرِك كرسي، ولم تُفتنك سلطة، فكنتَ أكبر من الكراسي وأشرف من المناصب.
كنتَ إذا كتبتَ جعلت من الورق جيشاً، ومن الحروف سيوفاً، ومن الجملة قلاعاً. وإذا خطبتَ، سكتت القاعات، وأصغت العقول، واهتزّت القلوب كأنها تستمع إلى نداء الحق من فم الزمان.
لم تكن محامياً عن نصوصٍ صامتة، بل كنت محامياً عن الضمير الإنساني، قاضياً في محكمة الحق، شاهداً على أن القانون إذا لم يكن عدلاً فهو طغيان مكتوب.
لقد عرفناك، نحن الذين رافقناك زمناً، فلم نجدك إلا أصدق من القلم في مداده، وأنقى من الورق في بياضه، وأشرف من كل سلطة في تواضعها. ثلاثون عاماً وأنا أراك تنظر إلى الوثيقة كما ينظر الأديب إلى قصيدته الأولى: تُعيدها وتُعيدها، تقلبها وتدققها، كأنك تخشى أن يهرب منها حرف بغير وجه حق، أو أن يفرّ منها معنى بغير إذن الحقيقة.
أيها العلامة… لقد كنتَ صوت الحرية في زمن تُباع فيه الحرية، وكنتَ راية العدالة في زمن يُستباح فيه العدل، وكنتَ مِرآة النزاهة في زمن اعتاد فيه الناس غبار الصفقات. أنتَ لم تكن رجلاً من لحم ودم فحسب، بل كنتَ قيمةً تمشي، ونوراً يتكلم، ورمزاً يفيض بالعزة والنقاء.
أيها الناس… إن رحيل محمد الحموري ليس موتاً لرجل، بل زلزالٌ في ضمير أمة، وانطفاءُ قنديلٍ كان يضيء دهاليز القانون، وانكسارُ سيفٍ طالما شهره في وجه الباطل.
أيها السامعون… إذا ذُكر الحق فاذكروا اسمه، وإذا ارتفعت راية العدل فارفعوا صورته، وإذا سُئلتم عن النزاهة فقولوا: هكذا كان أبا طارق.
واليوم، ها هو ابنك الدكتور طارق، يمسك المشعل من بعدك، ويؤسس منبراً باسمك، يلتف حوله ساسةٌ ومفكرون وقادة، ليقولوا للعالم: إن محمد الحموري لم يمت، بل تفرّق فينا جميعاً، وإن فكره لا يُدفن، بل يُزهر في كل عقل، ويضيء في كل قلب.
رحمك الله يا أبا طارق… لقد غادرتَ، لكنك تركتَ خلفك فكراً لا يشيخ، ومواقف لا تُمحى، وسيرة لا يطويها النسيان.
سلامٌ عليك أيها العظيم… سلامٌ على علمك الذي أورثتنا، وعلى فقهك الذي علّمتنا، وعلى نزاهتك التي غرستها فينا. سلامٌ عليك يوم وُلدت، ويوم نطقت، ويوم رحلت، ويوم تُبعث شاهدًا للعدل الذي عشت لأجله.
رحمك الله يا ابا طارق وأسكنك فسيح جناته.