في إطار المحاضرة التي قدمتها بالأمس تحت عنوان “البعد القيمي: الحضاري والتاريخي للأحداث الجارية في العالم في الوقت الحاضر”، شهد النقاش تفاعلًا ثريًا، خاصة عند تناول مسألة اختلال المنظومة القيمية في العلاقات الدولية، حيث تعمّق الحوار في استعراض التأثيرات العميقة لهذا الاختلال على المشهد السياسي والاقتصادي العالمي. وفي سياق التعقيب، تفضّل الأستاذ الدكتور باول، الزائر من جامعة جورج تاون في كلية الشريعة بالجامعة الأردنية، بمداخلة تناولت جانبًا جوهريًا من هذه التحولات، حيث أشار إلى أننا في الولايات المتحدة نشهد حاليًا ما يسمى “منطق الصفقة”، في إشارة واضحة إلى النهج الذي يتبناه الرئيس الأمريكي في تفاعله مع القضايا الدولية.
ويُبرز هذا الطرح بعدًا خطيرًا في السياسة الأمريكية الحديثة، حيث تتوارى المبادئ الدبلوماسية التقليدية أمام منهج براغماتي قائم على المقايضات الاقتصادية، وإعادة تشكيل التوازنات العالمية بمنطق العرض والطلب. ووفق هذا النهج، لا يتعامل مع السياسة الخارجية كمنظومة تحكمها الأعراف الدبلوماسية والقيم الأخلاقية والقانونية، بل ينظر إليها من زاوية الربح والخسارة، فيجعل من العلاقات الدولية سوقًا مفتوحًا يمكن فيه شراء النفوذ، وبيع السيادة، وإعادة توزيع الخرائط الجيوسياسية وفق المصالح التجارية والصفقات المربحة. وهذا يمثل تحولًا أعمق في الفلسفة السياسية التي تتحكم في موازين القوى الدولية. فحين تصبح السيادة الوطنية قابلة للتفاوض، وحقوق الشعوب موضوعًا للمساومة، والمعايير الأخلاقية مجرد أدوات تُستخدم وفق الحاجة، فإن العالم يدخل مرحلة جديدة من الفوضى الاستراتيجية، حيث يهيمن منطق القوة الاقتصادية على مفاهيم الشرعية السياسية، ويتحول القانون الدولي إلى مجرد أداة في يد القوى الكبرى لفرض أجنداتها.
تفتح هذه الظاهرة المجال أمام إعادة إنتاج نماذج جديدة من الاستعمار الاقتصادي، حيث لم تعد السيطرة على الدول تُمارس بالوسائل العسكرية فقط، بل باتت تُدار من خلال تحكم احتكاري بالموارد، وتوظيف الاقتصاد كأداة ضغط، وفرض إملاءات سياسية تحت غطاء الاتفاقيات التجارية والمساعدات التنموية، وهذا ما نراه جليًا في تعامل الإدارة الجديدة مع حلفائها وخصومها على حد سواء، حيث يتم استخدام العقوبات الاقتصادية وسيلة لمعاقبة الدول التي ترفض الانصياع، بينما يتم إغراء الدول الأخرى بعروض استثمارية مشروطة تؤدي في النهاية إلى تكريس التبعية السياسية والاقتصادية. وفي هذا السياق، يصبح الخلل القيمي انحرافاً في الخطاب السياسي، وتحولًا بنيويًا يمس جوهر العلاقات الدولية، مما يفرض على الدول، خاصة في العالم العربي، ضرورة إعادة التفكير في أساليب التفاعل مع هذه التحولات، وبناء منظومة قيمية متماسكة تعزز السيادة، والاستقلالية، والمناعة الحضارية، بحيث لا يتم التعامل مع القضايا المصيرية بمنطق الصفقات التي تؤدي إلى تفتيت الحقوق وتقويض الثوابت.
لقد كانت هذه المداخلة بمثابة إضاءة هامة على مخاطر “منطق الصفقة” الذي يهدد النظام الدولي القائم، ومفاهيم العدالة والاستقرار والسلام، إذ لا يمكن لعالم تُدار فيه العلاقات وفق مبدأ “كل شيء للبيع” أن يكون عالمًا مستقرًا أو أخلاقيًا. ومن هنا، فإن مواجهة هذا المنطق تتطلب إعادة الاعتبار للقيم الدبلوماسية الأصيلة، وإحياء مبدأ التعاون الدولي القائم على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، لا على الاستغلال والاستحواذ.
وفي ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة، والتغيرات التي تضرب بنية النظام العالمي، يبدو أن العالم يشهد انحرافًا حادًا نحو منطق السوق والصفقات في العلاقات الدولية، وهو نهج تجلى بوضوح في خطاب الرئيس الأمريكي المنتخب للمرة الثانية، الذي صرّح مؤخرًا بأنه سيشتري الكثير من أراضي العالم، بغض النظر عن موقعها أو بعدها عن الولايات المتحدة. هذا التصريح، وإن بدا للوهلة الأولى تجسيدًا لفكر اقتصادي يستند إلى البراغماتية الصارخة، فإنه في جوهره يعكس رؤية أعمق تكرّس نهجًا سياسيًا جديدًا يُخضع العلاقات الدولية لمنطق السوق، ويتعامل مع السيادة والحقوق والشرعية بمنطق العرض والطلب، متجاهلًا بذلك القيم الدبلوماسية الراسخة التي شكلت تقاليد العلاقات بين الدول لعقود طويلة.
في عالمٍ تزداد فيه النزعات القومية والتوجهات الشعبوية، يمثل هذا الخطاب نموذجًا واضحًا لصياغة السياسة الخارجية وفق آليات السوق، حيث تصبح الدول بمثابة شركات، ويتم التعامل مع المصالح القومية باعتبارها استثمارات تُدار بمنطق الربح والخسارة. ومن شأن هذه الرؤية أن تقوّض البنية التقليدية للدبلوماسية، التي لطالما استندت إلى مبادئ القانون الدولي، والتوازنات الاستراتيجية، والاحترام المتبادل بين الدول. غير أن هذه المبادئ اليوم في تراجع مستمر أمام منطق الصفقات الذي تتبناه الدول، حيث يتم تجاوز الحساسيات السياسية والاعتبارات الأخلاقية لصالح عقليات رجال الأعمال، التي ترى في الأرض والموارد والشعوب مجرد أصول قابلة للبيع والشراء.
إن التسليع المتزايد للفعل السياسي والدبلوماسي يحمل خطورة كبيرة، إذ يؤدي إلى تفكيك الإطار الأخلاقي الذي يضبط العلاقات الدولية، ويفتح الباب أمام إعادة إنتاج أشكال جديدة من الاستعمار والاستحواذ على مقدرات الدول عبر أدوات اقتصادية مغلفة بخطاب استثماري حديث. فحين يصبح الاستحواذ على الأراضي مشروعًا تجاريًا، فإن مفهوم السيادة ذاته يصبح محل مراجعة، وتتحول الدول الضعيفة إلى ساحات مفتوحة للمضاربات السياسية، حيث يتم التلاعب بثرواتها واستغلال موقعها الاستراتيجي في صفقات تعقد خلف الأبواب المغلقة، بعيدًا عن الإرادة الشعبية أو الشرعية القانونية.
إنّ السؤال المصيري الذي لا يمكن تجاهله في ظل هذا المشهد المضطرب هو: إلى أين يقودنا هذا النهج؟ إن منطق الصفقات الذي تحاول الدولة الكبرى فرضه يمثل خطوة إلى الوراء، ويشكل انتكاسة حضارية تعيد إنتاج أكثر مراحل التاريخ سوادًا، حين كانت الدول الكبرى تعامل بقية العالم كمستعمرات مفتوحة للنهب والاستغلال، دون أي قيد أخلاقي أو التزام قانوني. فإذا استمر هذا الاتجاه، فإنه سيؤدي إلى تفكك النظام الدولي القائم، وسيمهد الطريق أمام مرحلة جديدة من الفوضى العارمة، حيث تنهار مفاهيم الأمن الجماعي، ويتراجع مفهوم التعاون الدولي لصالح منطق القوة المطلقة، ويصبح العالم مجرد ساحة صراع تحكمها المصالح الجشعة، بلا حواجز أو خطوط حمراء.
وفي مواجهة هذا الانزلاق الخطير نحو فوضى الهيمنة، يصبح إحياء القيم الدبلوماسية مسألة مصيرية لا تحتمل التأجيل. ولا يمكن السماح للسياسة أن تُختزل في صفقات تجارية، لأن ذلك لا يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات، وتعميق الهوة بين الأغنياء والفقراء، وإعادة إنتاج أشكال جديدة من الاستعمار الاقتصادي أكثر فتكًا من الاستعمار التقليدي. ولا يُمكن للعالم أن يبقى رهينة لمنطق القوة العارية، حيث تُباع سيادة الدول في مزادات السياسة الدولية، ويُساوَم على حقوق الشعوب كما يُساوَم على أسعار الأسهم في الأسواق المالية.
إن التصدي لهذا النهج المدمر يكمن في رفض سياسات تحويل السياسة إلى بورصة، كما يتطلب تحركًا عالميًا لإعادة بناء منظومة أكثر عدالة، تُعيد الاعتبار لقيم السيادة والشرعية والتعاون المشترك، وتوقف مسلسل الابتزاز السياسي والتلاعب بمصائر الأمم. فالسيادة ليست بضاعة قابلة للبيع، والشرعية ليست رخصة قابلة للتفاوض، والمصير الإنساني لا يمكن أن يُدار وفق منطق السوق. إن لم يتكاتف العالم لإيقاف هذا الانحدار الخطير، فإننا سنشهد فجرًا قاتمًا لمستقبل تُحكمه شريعة الغاب، حيث لا مكان للضعفاء، ولا بقاء إلا للأقوى، مهما كانت الوسائل، ومهما كان الثمن.