72
العموم نيوز: كتب يحيى الحموري.
أيها السادة، يا من تعتقدون أن النسب المئوية هي أرقام بريئة تعكس إرادة الشعوب، دعونا نتأمل لحظةً واحدة في الأسطورة الخالدة: نسبة الـ تسعة وتسعين بالمئة، تلك النسبة التي أصبحت ماركةً مسجلة في “ديمقراطيات” جمهوريات التصفيق الأبدي. إنها ليست مجرد رقم، بل هي مرآةٌ عاكسة لكل ما يمكن أن ينتجه الخيال السياسي من عبثٍ ومسرحيات رديئة الإخراج.
تسعة وتسعون بالمئة! تلك النسبة التي كانت تظهر على شاشات التلفزيون وسط زغاريد النساء ودموع الرجال المصطنعة، نسبة تجعل الرياضيات تبدو كعلمٍ غبيٍ عاجزٍ عن فهم إرادة الزعيم الأوحد. في صناديق الانتخابات السورية، لم يكن الناخب يصوت؛ كان يُملي عليه أن يكون رقماً في معادلة الوهم، ومن يجرؤ أن يرفض؟ الكاميرا تراقب، والصندوق شفاف، والنتيجة محسومة سلفاً، فلماذا كل هذه الدراما؟
والطريف أن هؤلاء الذين كانوا يصوتون بنسبة التسعة والتسعين بالمئة خرجوا اليوم هائمين في الشوارع، نصفهم مهجَّر، والنصف الآخر يعيش بين الأنقاض، يحتفلون بـ “الإنجازات الكبرى” التي أودت بوطنهم إلى قاع الخراب. هل تساءل أحدهم يومًا: أين ذهبت أصواتهم؟ كيف لتلك الملايين التي كانت تصفق في المهرجانات، وترقص أمام الكاميرات، أن تتحول فجأةً إلى لاجئين مشردين؟
خمسةٌ وخمسون عامًا من حكم “البلطجة والكذب”، حيث كان المواطن يدرك أن النتيجة مكتوبة قبل أن يضع قلمه على ورقة التصويت. خمسةٌ وخمسون عامًا من “المسرح الانتخابي”، حيث كان المرشح الأوحد ينافس “صورته” فقط. تسعةٌ وتسعون بالمئة ليست نسبة نجاح؛ إنها شهادة وفاة لعقل أمةٍ بأكملها، عقلٍ اعتُقل وصُودر وحُكم عليه بالنسيان في سجون الخوف.
فيا أيها المتباكون على تلك الديمقراطية الزائفة، اعلموا أن التسعة والتسعين بالمئة كانت السخرية الكبرى، والمأساة الأعظم. لقد صوَّت الشعب السوري في كل مرةٍ لصالح الزعيم، ليس لأنه أحبه، بل لأنه خافه. لقد كانت تسعةٌ وتسعون بالمئة إحصائية الرعب، لا إحصائية القناعة.
أما اليوم، وقد مزَّقت الحرب كل شيء، واختفى التصفيق خلف ضجيج الانفجارات، فإن السؤال الأكبر يظل بلا إجابة: من سيصوِّت الآن؟ اللاجئون على حدود تركيا؟ أم الغارقون في قوارب الموت؟ أم أولئك الذين ماتوا تحت الركام؟
حقًا، لقد أبدع النظام السوري في صنع واقعٍ تجعل فيه الكذبة الأكبر هي الحقيقة الوحيدة. تسعةٌ وتسعون بالمئة؟ بل تسعةٌ وتسعون عامًا من البؤس، والكذب، والمهزلة.