في المقالات الأربع السابقة من سلسلة “فكّ ألغاز الترهل في هندسة النقل والمرور والسلامة المرورية”، كشفنا مواطن العطب: هشاشة البنية التحتية، وعيوب سطح الطريق، وغياب الأرصفة، وفوضى التصميم. أما اليوم، فنفتح الجرح الأكثر نزفًا… حوادث الدهس، أو الجريمة التي يتقاسمها غياب التخطيط وغياب المساءلة.
في العالم المتحضر، تُبنى الطرق على مبدأ الفصل الكامل بين حركة المركبات والمشاة، لأن الإنسان أعزل. لا يمتلك وسادة هوائية، ولا حزام أمان. جسده هو من يتلقى الضربة، وجلده هو من يحتكّ بالإسفلت، وعظامه هي من تُهشّم تحت عجلات لا يفصلها عنه شيء. فهل يجوز بعد ذلك أن نتركه يواجه مركبة مسرعة بلا ممر؟ أو أن نعبر به فوق شارع سريع بلا إشارة أو جسر أو درابزين؟
ما يحدث لا يحتاج إلى تفسير نظري. يكفي أن تسير في عمّان أو اي محافظة اخرى لترى الأرصفة المحطمة، والممرات المفقودة، والجسور الغائبة، والدواوير الخالية من أي تنظيم لعبور المشاة. ستُصدم حين تدرك أن الإنسان في بلادنا لا يُعدّ جزءًا من المعادلة التصميمية، وكأن الطريق وُجد للمركبات فقط، والمشاة عبء يجب تحمّله لا حمايته.
ثم إذا وقع المحذور، يُقاد السائق إلى السجن كجاني مكتمل الأركان، يُدان بجريمة لم يقصدها، ولا يعرف من ارتكبها في حقه وحق الضحية، ويُنسى أن السيارة لم تكن وحدها من دهست، بل الطريق الذي غابت عنه الهندسة، والجهة التي أهملت.
تقرير الأمن العام لعام 2024 ليس رقمًا بل صرخة: 11,950 حادث سير، منها 4,860 حادث دهس، أي بنسبة 41% من مجموع الحوادث الكلية. من بين 11,818 إصابة، هناك 4,398 إصابة مشاة، أي 37% من مجمل الإصابات هم من المشاة. والمصاب هنا ليس داخل مركبة، بل إنسانٌ أعزل، أغلبهم أطفال ونساء وكبار سن، لم يجدوا ممرًا أو إشارة أو رصيفًا، بل وجدوا الموت.
بيت القصيد هنا، ولا يتكرر عبثًا: غياب المتخصصين في هندسة المرور والنقل والسلامة هو أصل الداء. لدى الجهات المسؤولة لا يظهر أن هناك إدراكًا لمتطلبات حماية المشاة، ولا التزامًا بتطبيق ما ورد في أدلة التصميم البريطانية والأمريكية، وحتى الأردنية إن وُجدت. وليس عيبًا أن تغيب الخبرات، لكن العيب أن يستمر الإنكار، وأن نواصل تجاهل أصل الخلل.
وما يزيد الطين بلة، تكرار مقولة “الإنسان مسؤول عن 95% من الحوادث” دون أي أساس هندسي أو علمي. هذه النسبة أصبحت ذريعة لرفع يد الجهات المسؤولة، وتبرئة التخطيط والتنفيذ والرقابة من كل تقصير.
الحل ليس سرًا. فصل الحركات بين المشاة والمركبات، ممرات مشاة عند كل تقاطع، جسور وأنفاق في الطرق السريعة، إشارات ضوئية ذكية، درابزينات، أرصفة متصلة، مسارات لكبار السن وذوي الإعاقة، إنارة واضحة، وأولوية للمشاة كما تُفرض في الأدلة العالمية. هذه ليست رفاهية، بل ضرورة، وتطبيقها واجب الجهات المعنية، لا منّة منها.
ومن هنا، فإننا نناشد نقابة المحامين والمؤسسات القانونية أن تدخل على الخط. الكروكيات ليست مجرد مخططات للحوادث، بل أدوات لإظهار من غاب، لا فقط من دهس. يجب أن يُسأل من صمم الطريق بلا ممر، لا فقط من قاد فوقه. وإن لم تكن في موقع الحادث وسيلة عبور، فلا يجوز أن يتحمل السائق وزر دمٍ سببه التخطيط لا السرعة وحدها.
لا نتهكم، ولا نتهم، ولا نبحث عن خصم. لكننا نحرج بصراحة، لأن المعاناة بلغت حدَّ الفضيحة. والموت أصبح مألوفًا إلى درجة التجاهل. نريد حلولًا تبدأ بخط عبور، لا ببيان صحفي.
وسنواصل هذه السلسلة، حلقة بعد أخرى، حتى نُعيد للإنسان كرامته في الطريق، وحتى لا يُترك وحيدًا بين عجلةٍ حُرّة، وهندسةٍ غائبة.
والله وليّ التوفيق.