تحويل نظام النقل العام في المدن الرئيسية بشكل عام، وفي مدينة عمان بشكل خاص، إلى شبكة ذكية وتفاعلية ليس مجرد تحديث تقني فحسب، بل هو خطوة أساسية نحو تحسين التنقل الحضري بشكل مستدام، يتطلب هذا التحول استراتيجية تنموية شاملة تمزج بين التكنولوجيا والتخطيط العمراني والاستثمار الرأسمالي، لتوفير تجربة نقل أكثر كفاءة وراحة، مع الحفاظ على بيئة سليمة ومستدامة.
نبعت هذه الرؤية منذ انتقال إدارة ملف النقل العام من وزارة النقل إلى أمانة عمان، ووضحت الصورة من تجربة حية أثناء خدمتي كنائب لأمين عمان، خلال هذا الانتقال قبل خمسة عشر عامًا، وبرزت أيضًا ضرورة التشبيك بين السياسات الحكومية والإصلاحات التشريعية التي تمت في فترة لاحقة، أثناء رئاستي للجنة النقل والخدمات العامة النيابية في المجلس النيابي السابع عشر. حيث تم إقرار قانون تنظيم النقل العام عام 2018، الذي تضمّن إقرار صندوق دعم الركاب وحوافز لدمج مشغلي الحافلات الفرديين الذين تبلغ نسبتهم 80% من مجموع المشغلين في المملكة، ضمن شبكة موحدة أو شركات تشغيل مشتركة، وحوافز أخرى ستساهم في تطوير بنية تحتية آمنة، من خلال تحديث أسطول الحافلات ووسائط النقل العام، وتفعيل أنظمة النقل الذكية.
إلا أنه، على الرغم من إقرار قانون النقل العام من قبل مجلس الأمة الأردني، وتوشيحه بالإرادة الملكية السامية، ما زالت بعض بنوده غير مفعلة. حيث إن القانون الذي يعد أساسًا للإصلاح في معالجة المشكلات الموروثه وتحسين معايير الخدمة لقطاع النقل العام في الأردن، بإنتظار إرادة سياسية لتنفيذ نصوصه المجمدة في ما يعتبر تجاوزًا على الدستور الأردني.
من بين الحلول المبتكرة التي من الضرورة أن تصاحب تنفيذ قانون تنظيم النقل العام لعام 2018 وتفعيل بنوده، إدخال “المقاصة الإلكترونية” لكل خطوط النقل العام في المملكة، بما في ذلك الحضرية داخل المدن الرئيسية وبين مراكز المدن. وربطها على شبكة تتبع لاحتساب المسافات، تعتمد على المخطط الشمولي لخطوط النقل العام الذي يفترض أن تنجزه وزارة النقل، التي ينحصر دورها في التخطيط المركزي كجهة منظمة، ووضع معايير الخدمة وتوحيدها، وتعديل نموذج التشغيل، باعتماد الكيلومتر كأساس للتعرفة، وليس نموذج امتلاء المقاعد كأساس لربحية المشغلين، كما تبرز ضرورة تطوير برمجيات تسهل توزيع عوائد التعرفة بين المشغلين، وأخيرًا، تأهيل شركات النقل وتصنيفها، كما هو معمول به عند تصنيف مقاولي الإنشاءات في وزارة الأشغال العامة والإسكان.
هذا الإطار يحقق مركزية التخطيط ولا مركزية في العمليات، ويترك الإدارة اليومية في عهدة البلديات وأمانة عمان الكبرى “لأنّ أهل مكة أدرى بشعابها”، ومتابعة إصدار التصاريح والرقابة على المشغلين واستلام الشكاوى وغيرها، كما يبرز هنا أهمية مقترحي تعديل النموذج التشغيلي، من خلال إعتماد التعرفة بالكيلومتر، لوسائط النقل، مما يحقق ترددات ثابتة والتحّكم بالانطلاق والوصول بما يتناسب مع ساعات الذروة، مما يوفر انتظامًا وتوحيدًا، ويرتقي بمستويات الخدمة بشكل أكثر فعالية وموثوقية طيلة ساعات عملها.
كما تبرز أهمية صندوق دعم الركاب المقرّ بالقانون والمجمّد العمل فيه، في دفع بدل المقاعد الشاغرة في وسائط النقل، ويسهل هذا من خلال برمجتها الكترونياً، الذي يصب بنفس الهدف ويضمن وصول وسائط النقل إلى نهاية الخط.
ستسهم هذه التعديلات عند ربطها بمنظومة إلكترونية في إعادة توزيع الدعم بشكل عادل بين بين المشغلين على الخطوط ذات الطلب المرتفع والخطوط الأقل كثافة ركاب، الذي سيعزز الكفاءة والموثوقية، وثبات مستويات الخدمة على كل الخطوط وفي كل المحطات، وفي جميع ساعات العمل في كل محافظات المملكة، مما سيشجع على استخدام وسائل النقل، علاوة على ذلك، ستدعم الأنظمة الذكية مثل الدفع الإلكتروني تحسين تجربة المستخدم، وسهولة بث الرسائل الإلكترونية على الخطوط، والإعلان عن مواعيد الانطلاق والوصول، والدفع بواسطة الهاتف النقال مع تسهيل تعديل التعرفة التي تنصف المشغلين في مواجهة تقلبات أسعار الطاقة بسبب كثرة التعديلات على اسعار المشتقات النفطية عالمياً وانعكاسها على كلف التشغيل محلياً.
الهدف الاستراتيجي لهذه الرؤية هو تقليل الاعتماد على السيارات الخاصة، مما سيسهم في تقليل الازدحام المروري وتحسين حركة السير والتدفق المروري في المدن، كما سيكون من خلال هذا النظام الذكي، تقليص وقت التنقل والانتظار، مما يعكس تحسنًا كبيرًا في جودة الحياة اليومية للمواطنين ورفع معايير الخدمة إلى أفضل الممارسات في العالم والمنطقة.
لتحقيق كل ذلك، من الضروري استكمال بنية النقل الحضري التحتية، وإنجاز المخطط الشمولي لخطوط الحافلات السريعة والخطوط المغذية لها. بالإضافة إلى دمج أكثر من 4,000 مركبة “سرفيس” تعمل داخل حدود أمانة عمان الكبرى ضمن نظام موحد للنقل الحضري، وبهذا نخفف الأثر الاجتماعي والاقتصادي على المشغلين في القطاع، ويُعتمد في ذلك على ضرورة دمجهم وليس استثنائهم أثناء تنفيذ خطط التحديث والتطوير والاصلاح، بما في ذلك ضرورة استكمال متطلبات بنية تحتية حضرية ضرورية، التي تتطلب توفير مواقف سيارات على مداخل المدن بالمجان، ومواقف متعددة الطوابق في مراكز المدن بالشراكة مع القطاع الخاص بأسعار مرتفعة نسبيًا، وتبرز أهمية تطبيق رسوم مرتفعة على مواقف السيارات داخل المدينة، مع توفير مواقف مجانية على المداخل، مما سيسهم في تقليل الضغط على مراكز المدن من خلال تعزيز أفضل الممارسات “Park & Ride” مع تحسين إدارة المرور من خلال تقييد الوصول إلى المناطق الأكثر ازدحامًا، وتعد هذه الإجراءات عنصرًا أساسًا في تحويل ثقافة التنقل في عمان، بحيث لا تكون السيارات الخاصة خيارًا أولًا أو وسيلة للتنقل داخل المدن.
من جهة أخرى، سيعزز إصلاح قطاع النقل ثقافة المشي، الذي يتطلب توفير مسارات آمنة للمشاة، وضرورة تحقيق توازن بين تدفق السيارات وحركة المشاة لاستعادة حقوقهم، التي تم تقليصها بسبب بعض الممارسات خلال السنوات الأخيرة بالاعتداء على الأرصفة، وضرورة إعادة الأرصفة لمستحقيها، التي تعتبر عنصرًا أساسيًا في منظومة النقل الحضري المستدام.
أخيرًا، لن يقتصر مشروع النقل العام الذكي على تحسين البنية التحتية فحسب، بل سيعيد تشكيل الحياة الحضرية في عمان والمدن الرئيسية. إنّ مشروع الباص السريع عند اكتماله سيشكل حجر الزاوية لهذا التحول، ولكنه لا يعتبر وحده حلاً لمشكلة النقل العام في عمان، وإنما مطلوب تطوير أنظمة متعددة الوسائط مثل المترو، والقطار الخفيف، والخطوط المغذية للباص السريع، مما يعزز الاستدامة ويحسن تجربة الحياة اليومية، كما سيكون لمنظومة النقل الحضري أثر على الصحة العامة، من خلال تقليل الأمراض المرتبطة بالسمنة مثل ارتفاع ضغط الدم، السكري، وأمراض القلب والشرايين، حيث سيشجع على ثقافة المشي ويقلل من الإنفاق على فاتورة الصحة العامة.