في زمن طغت فيه السرعة على العمق، والتفاعل اللحظي على التفكير الطويل، تهاوى الخطاب السياسي من مقامه الرفيع إلى ساحات التهريج والاستعراض، حتى بات يصعب التمييز بين منشور “تافه” على منصة اجتماعية، وتصريح “رسمي” لقائد أو مسؤول سياسي او ناطق إعلامي..
ما هو الخطاب السياسي؟
الخطاب السياسي، في جوهره، هو أداة لنقل الرؤى والأفكار السياسية، وترجمة السياسات العامة إلى خطاب عقلاني موجه للجمهور، يهدف إلى الإقناع، والحشد، والتأطير الفكري للمواقف.
كان الخطاب السياسي في الماضي مرآة لفكر الدول ومؤسساتها، يرتكز على الحكمة، الرصانة، والدقة، ويمر عبر بوابات اللغة السياسية الرزينة التي تُراعي الحجة والمنطق والبعد القيمي.
التحول: من الخطاب السياسي إلى خطاب السوق
غير أن هذا النموذج الكلاسيكي بدأ يتلاشى مع صعود أدوات الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، التي فرضت منطقها الجديد:
الإثارة، التفاعل، اللحظة.
لم يعد الخطاب السياسي معنيًا بالتحليل والتفسير، بل صار ينافس “الترند” ويتسابق مع “المحتوى الهابط” على جذب الانتباه ، فأصبحنا نرى سياسيين يعمدون إلى إطلاق تصريحات شعبوية، سطحية، أو حتى هجومية بهدف تحقيق الانتشار الفوري، بصرف النظر عن عمق المضمون أو صدقيته.
هل تغير السياسيون أم تغيرت البيئة؟
ليس من الإنصاف أن نلقي اللوم كاملًا على السياسيين وحدهم، فوسائل التواصل فرضت مناخًا جديدًا لا يترك مساحة للخطاب العميق، بل يطالبه بالإيجاز السريع والانفعال اللحظي. ومع ذلك، فإن السياسي الحقيقي لا يركن إلى منطق السوق، بل يسعى إلى ترويض الأدوات الحديثة لتخدم خطابًا رصينًا لا أن ينهار أمامها.
لكن للأسف، فإن ضعف العديد من السياسيين والمسؤولين وممثلي الشعوب والناطقين الإعلاميين فكريًا وثقافيًا، وعدم امتلاكهم لأدوات التحليل والبيان، جعلهم يختارون الطريق الأسهل: الاستعراض بدل التحليل، والتهريج بدل الحوار، والشتيمة بدل الإقناع.
ما النتيجة؟
النتيجة أننا أصبحنا أمام خطاب سياسي “خالي الدسم”، لا يزرع الوعي، ولا يحفّز الفكر، بل يساهم في تسطيح القضايا، وإعادة تدوير التفاهة بصيغة رسمية، بل وأكثر خطورة لأنها تُمارس من قبل صناع القرار.
أين نحن من الخطاب السياسي الأصيل؟
الخطاب السياسي الأصيل هو ذاك الذي يوازن بين التأثير الشعبي والعمق الفكري، بين اللحظة والتاريخ، بين الكلمة ونتائجها ، هو خطاب يحمل هم الأمة، ويضع المستقبل في حسبانه، ويتعامل مع الجمهور بوصفه شريكًا في الوعي لا مستهلكًا للانفعال.
نحن بحاجة ماسة إلى إعادة الاعتبار للخطاب السياسي، عبر رفع سقف المعرفة لدى السياسيين، وتحصين الجمهور ضد المحتوى الهابط، وتعزيز دور المثقف في فضاء السياسة ، فالأمم لا تُبنى بخطابات ( إكسية او انستجرامية او تيكتوكية … ) ، بل بفكر سياسي عميق، متين، ورصين، يعبر عن هموم الشعوب ولا يتاجر بها.