أشرت في مقالي السابق الى خلل بنيوي في هندسة المؤسسات قاد الى حوادث دامية مؤكداً أننا لسنا بمأمن من تكرار الكوارث ما دامت اسبابها قائمة بلا معالجة. ويؤسفني ان كثيراً من مؤسساتنا يعمل في بيئة يغيب فيها الضبط والرقابة وتستشري فيها ترهلات الادارة كما وتسند فيها المناصب الى غير المؤهلين ويغيب عنها التحول الرقمي والتنسيق الافقي مع سائر الجهات.
من هنا تبرز الحاجة الى انشاء هيئة وطنية مستقلة لادارة المخاطر تختلف بطبيعتها عن الاجسام القائمة، وتنهض بمهمة استباق الاخطار قبل وقوعها عبر استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة ونماذج التنبؤ. كما يجب تعنى هذه الهيئة بوضع معايير ملزمة ورصد مدى التزام المؤسسات بها، وتنفيذ خطط استباقية وتدريبات منتظمة تهدف الى حماية الارواح وتقليل الخسائر.
وربما يتساءل البعض: أليس لدينا مركز لادارة الازمات؟ نعم، لدينا مركز وطني فاعل يتولى تنسيق الجهود ساعة الطوارئ ويعمل على توحيد غرف العمليات وتوفير البيانات اللازمة لصناع القرار اثناء الازمة. لكن الفارق الجوهري ان هذا المركز يتعامل مع الكارثة بعد وقوعها، بينما المقترح هنا يتطلع الى ما قبل ذلك، وتحديداً الى جذر المشكلة، ويكون ذلك عبر بناء منظومة وقائية متكاملة تكون جزءاً من صنع القرار لا استجابته فقط.
ولكي تحقق هذه الهيئة اهدافها لا بد ان تطلق برامج تدريب وتأهيل، بالاضافة الى الزام المؤسسات بخطط طوارئ وتمارين دورية، وان تصدر الهيئة المقترحة تقارير علنية لتعزز ثقة المجتمع، وان تفتح المجال امام شراكات بحثية مع الجامعات، بالاضافة الى الاسهام في تمكين الاعلام من الوصول الى المعلومة الدقيقة لخلق وعي وقائي على اسس علمية.
إن إنشاء هيئة مستقلة لإدارة المخاطر ليس ترفاً مؤسسياً، بل استثمار في امن الانسان وثروة الوطن وخطوة تحولية تنقلنا من رد الفعل الى الوقاية، ومن ادارة الازمات الى استباقها، ومن ضبابية الثقة الى منظومة مؤسسية تقوم على الشفافية والمساءلة والكفاءة.