3.5 مليون لاجئ…ماذا بعد؟عروبة الاخباري | Oroba News
مركز حزب عزم للدراسات الاستراتيجية
منذ أن أشرقت شمس الدولة الأردنية الحديثة على أرضٍ تضيق جغرافيًا وتتّسع إنسانيًا، وقف الأردن منذ تأسيسه ملاذًا آمنًا في زمن العواصف. لم يكن اللجوء طارئًا على وجدانه السياسي أو الاجتماعي، بل قدرًا متكررًا يختبر صبره وقدرته على الاحتواء.
تحمّل الأردن على مدى عقود أعباء نزوحٍ متكرّر، دون أن يغلق بابه يومًا أمام ملهوفٍ أو مطرودٍ من وطنه. فالمعادلة كانت دائمًا أخلاقية وإنسانية قبل أن تكون سياسية واقتصادية.
اليوم، يقف الأردن على تقاطعٍ محيّر بين إنسانيته ومسؤولياته الوطنية. فالأردن، يبلغ عدد سكانه 11.913 مليون نسمة، منهم 3.5 مليون لاجئ من 43 دولة (حسب تصريحات وزير الداخلية (21/10/2025)، أي ما يقارب 30% من إجمالي السكان، إضافة إلى المقيمين والوافدين الذين يشكّلون حوالي 10% من مجموع السكان. هذه النسبة جعلت الأردن من أكثر دول العالم استضافةً للاجئين مقارنة بعدد سكانه، ما ترك بصماتٍ عميقة على بنيته الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
بدأت حكاية اللجوء مع النكبة الفلسطينية عام 1948، ثم عام 1967، حين استقبل الأردن مئات الآلاف من الفلسطينيين في مخيمات، ما لبثت ان تحوّلت إلى مدن نابضة بالحياة، وتشكّل جزءًا من نسيج الدولة. تكرر المشهد في سبعينيات القرن الماضي مع الحرب الأهلية اللبنانية، وفي التسعينيات مع الغزو العراقي للكويت وما تبعه من تدفق للعراقيين عام 2003، ثم جاءت المأساة السورية عام 2011 لتفتح الباب أمام أكبر موجة لجوء في تاريخ الأردن (تجاوز عدد المسجلين فيها 1.3 مليون لاجئ، فضلًا عن غير المسجلين).
وهكذا، لم يعد اللجوء حالة طارئة، بل أصبح مكوّنًا ثابتًا في المشهد السكاني والاجتماعي الأردني، ما غيّر شكل البلاد ديموغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا.
هذا التنوّع عزز من صورة الأردن كدولة إنسانية راعية للسلام، لكنه في الوقت ذاته أحدث تغيّر عميق في البنية السكانية، وخلق واقعاً جديداً تتداخل فيه الهويات والانتماءات، وتتعقّد فيه معادلة المواطنة بين الأردني والمقيم واللاجئ. كما أحدث ضغطًا على النسيج الاجتماعي، حيث ارتفعت البطالة وتراجعت فرص التعليم الجيد، وازداد الضغط على القطاع الصحي والمياه والبنى التحتية، وظهرت حالات احتكاك اجتماعي ناتجة عن تداخل الفرص والهويات، مما يستدعي إدارة ذكية لمواجهة هذه المهمة الحساسة للمحافظة على السلم الأهلي وتوازن العلاقات بين المجتمعين المضيف واللاجئ.
ان التأثير على البنى التحتية كان كبيراً، إذ تحمّلت المدن الشمالية والوسطى أعباءً تفوق طاقتها، فازدادت أعباء الكهرباء والمدارس والمستشفيات والنقل والصرف الصحي، ووصلت نسبة الضغط في بعض المحافظات إلى أكثر من 40%. وقدرت الحكومة كلفة استضافة اللاجئين بأكثر من 15 مليار دولار منذ عام 2011، بينما لم تغطِّ المساعدات الدولية سوى نحو 30% من الكلفة الفعلية، ما اضطر الأردن لتحمّل الجزء الأكبر من نفقاتها من ميزانيته.
في قطاع المياه، تتجلى الأزمة الأشد خطورة. فالأردن من أفقر دول العالم مائيًا، إذ تبلغ كميات المياه المتاحة 1,093 مليون متر مكعب سنويًا (منها 519 مليون للأغراض المنزلية)، ما يجعل حصة الفرد نحو 91.5 مترًا مكعبًا فقط، أي أقل بكثير من حد الفقر المائي العالمي (500 متر مكعب للفرد)، في حين تبلغ الحصة الفعلية للاستخدامات المنزلية 43 مترًا مكعبًا سنويًا، ولو كان عدد سكان الأردن طبيعيًا بحدود 7.5 مليون نسمة فقط، لكانت حصة الفرد من المياه نحو 146 مترًا مكعبًا سنويًا، أي بزيادة 60%، ولأغراض الاستخدامات المنزلية، فأنها ستكون حوالي 69.5 متر مكعب (بزيادة مقدراها 62℅ تقريباً عما هي عليه اليوم). هذه الأرقام تكشف أن أزمة المياه أصبحت مسألة سيادية وأمنية تمسّ الاستقرار الوطني.
اقتصاديًا، ساهم اللجوء في تحريك قطاعات محددة كالإسكان والتجارة الصغيرة، لكنه عمّق العجز العام ورفع معدلات البطالة والإنفاق الحكومي. وتتحمّل الدولة سنويًا أكثر من 3 مليارات دولار لتغطية الخدمات الأساسية، ما أدى إلى تضخم الدين العام الذي وصل الى 119% من الناتج المحلي (حسب المنشور بتاريخ 24/10/2025). وهكذا باتت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية تتغذى على بعضها البعض في حلقةٍ تهدد النمو والاستقرار.
أما على الصعيد الأمني، فقد شكّل اللجوء تحديًا معقّدًا. فالأردن واجه محاولات تسلل وجريمة منظمة ومخاطر تطرف، إلا أن الأجهزة الأمنية أدارت الملف باحترافية، ما حال دون تحوّل المخيمات إلى بؤرٍ للتهريب أو التطرف، في وقتٍ شهدت فيه المنطقة انهيارات أمنية كبرى. غير أن التهديدات تبقى قائمة، خاصة في ظل محاولات بعض القوى الإقليمية توظيف ملف اللاجئين سياسيًا لخدمة أجندات تخصها.
سياسيًا، لم تكن استضافة اللاجئين مسألة إنسانية فحسب، بل ورقة سياسية حساسة في معادلات الإقليم. فقد واجه الأردن ضغوطًا خفية من قوى دولية تسعى لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، أو لتقليص أعباء اللجوء السوري، وفي ظل غياب حلول سياسية شاملة، يجد الأردن نفسه في موقع من يحاول حماية دولته من أن تتحول إلى مخيم كبير أو منطقة انتظار مؤقتة لأزمات الآخرين، في ظل محاولات بعض الأطراف إعادة صياغة معادلة الهوية والعودة على حساب الأردن.
يُدرك الأردن أن الملف لا يمكن أن يبقى مفتوحًا إلى الأبد دون حلٍّ سياسي شامل يضمن عودة اللاجئين، خصوصًا في ظل تراجع الدعم الدولي وازدياد أزمات المنطقة.
منذ اندلاع الأزمات الإقليمية، قاد الملك عبد الله الثاني سياسة متوازنة قائمة على الإنسانية والواقعية السياسية؛ فحوّل الملف من عبء إنساني إلى قضية سياسية عالمية، وطالب المجتمع الدولي بالوفاء بالتزاماته تجاه الأردن باعتباره خط الدفاع الأول عن استقرار المنطقة. كما حافظ على ثوابت الدولة وهويتها الوطنية ورفض مبدأ الوطن البديل. رؤيته كانت واضحة “الأردن ليس بديلاً عن أحد، ولا وطنًا مؤقتًا لأحد”.
إلى جانب الجهد الرسمي، أسهم المجتمع المدني بشكل محدود في دعم اللاجئين عبر التعليم غير الرسمي والمساعدات النفسية والاجتماعية، فيما تنوّعت مواقف الأحزاب السياسية بين البعد الإنساني والدعوة لحماية الموارد الوطنية. ومع ذلك، يبقى المطلوب رؤية وطنية شاملة تنظم العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني واللاجئين، وتوازن بين الكرامة الإنسانية والمصلحة الوطنية.
يدرك الأردنيون أن وطنهم الصغير يقف اليوم بين ضغوط الداخل ومخاطر الإقليم، وبين محدودية الموارد واتساع الواجبات. لذلك، يحتاج الأردن إلى استراتيجية شاملة لإدارة ملف اللجوء بعيدًا عن منطق الطوارئ. فالقضية لم تعد إنسانية فقط، بل أصبحت مسألة وجودية تمسّ مستقبل الدولة وهويتها.
إن المستقبل لا يُبنى على المساعدات وحدها، بل على إعادة هيكلة الاقتصاد وتعزيز العدالة الاجتماعية والهوية الوطنية، وتوسيع مفهوم الأمن الوطني ليشمل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والمائية. فالأردن يمتلك فرصة لتحويل الأزمة إلى منصة لإعادة بناء منظومته الوطنية على أسس العدالة والاستدامة.
اليوم، ثلاثة ملايين ونصف المليون لاجئ، وهي ليست أرقاماً في سجلات الأمم المتحدة، بل وجوه وأحلام وأجيال تعيش او ولدت في ظل العلم الأردني. هذه الأعداد الكبيرة تفوق قدرات الاردن على التحمل، وتفرض ضغوطًا غير مسبوقة على الأمن الوطني والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.
من هذا المنطلق وكون الأردن، لم يكن سببًا في أي من حالات اللجوء، إلا أنه تحمّل تبعاتها نيابة عن العالم. فان حزب عزم، يرى بان هذه الأعباء تفوق قدرة الأردن، وتضع أمنه واستقراره على المحك، ما يستدعي من دول العالم ودول المنطقة تحمل مسؤولياتها المشتركة عبر دعم مالي وتنموي مستدام، وتمويل مشاريع البنية التحتية والمياه والتعليم والصحة، والمشاركة في إدارة المجتمعات المضيفة. إن استمرار تحميل الأردن هذه الأعباء لا يهدد رفاه اللاجئين فحسب، بل يشكل تهديدًا مباشرًا لاستقرار المملكة والمنطقة بأسرها.
السؤال الذي يدور اليوم في أروقة حزب عزم، ليس ما قدّمه الأردن للعالم، بل ما الذي سيقدمه العالم للأردن؟ ومن هنا، يجب ان تتحول مسألة الدعم الدولي من خيار أخلاقي إلى واجب استراتيجي دولي يساهم في حفظ الأمن والسلام الإقليميين.
وهنا من حقنا في حزب عزم، ان نطرح سؤال اخر، ماذا بعد؟ لضمان استقرار الأردن، والاستفادة القصوى من ابناءه أصحاب الكفاءات والمهارات في التنمية الوطنية، وعدم تحوّل اللجوء من أزمة إنسانية إلى عبء بنيوي دائم، فنرجو ان لا تكون الإجابة، عن طريق فتح باب هجرة الكفاءات الأردنية (حتى لا يفهم باننا نبحث عن تهجير أبناء الوطن لاستبدالهم بالتوطين والوافدين)، ولكيلا نصبح الدولة التي تُهاجر من داخلها، وحتى نتمكن من المحافظة على ان يبقى الأردن وطنًا مقدساً لابناءه.
لقد كتب الأردن تاريخه بالحكمة والصبر لا بالثروة ولا بالقوة. واليوم، بين واقعه الاقتصادي المؤلم، وأزماته المائية والاجتماعية، يبقى الرهان على قدرته في تحويل المحن إلى فرص، ليظل وطنًا لا ملاذًا فقط، ولكيلا يتحوّل مستقبل أبنائه إلى رحلة بحثٍ عن وطنٍ اخر، في بلدٍ لطالما كان القلب الذي لا يخون.


