تتصاعد التوترات غير المعلنة بين تركيا وإسرائيل على الساحة السورية، في ظل تحركات تركية متسارعة للتمدد نحو عمق البلاد، وسط تراجع وانحسار في الحضور الإيراني ، المشهد الجديد يعيد رسم خريطة النفوذ في سوريا، ويثير تساؤلات جدية حول ما إذا كانت أنقرة تتحضر لحلول تدريجي في موقع طهران، لا سيما مع محاولاتها إقامة قواعد عسكرية جديدة في مناطق استراتيجية مثل حمص.
أبعاد هذا التغير الجيوسياسي، نلقي الضوء عليه بشكل سريع ، فإلى أي مدى قد تقترب تركيا من لعب الدور الإيراني في سوريا، ولماذا تعتبر إسرائيل هذا التحول تهديدًا خفيًا لكنه حقيقي .. ؟
تعيش الساحة السورية حالة من التحولات المتسارعة التي تعيد رسم خرائط النفوذ الإقليمي، حيث برزت تركيا كلاعب لا يكتفي بإدارة الوضع في شمال سوريا بل بدأ بالتمدد نحو العمق السوري، مدفوعة برؤية استراتيجية تستثمر في الفراغ الذي بدأ يتشكل بعد تراجع الحضور الإيراني ، هذا التوسع التركي، الذي بدأ يأخذ طابعًا عسكريًا منظمًا عبر القواعد العسكرية والتحالفات مع أطراف فاعلة داخل سوريا، يثير في المقابل حذرًا إسرائيليًا متصاعدًا، خاصة مع تحركات أنقرة جنوبًا، واقترابها من مناطق ترى فيها تل أبيب عمقًا أمنيًا حيويًا. في الأسابيع الأخيرة، ظهرت مؤشرات واضحة على رغبة تركية في التمركز في منطقة حمص، وهي منطقة لم تكن ضمن دوائر النفوذ التقليدية لتركيا خلال سنوات الحرب ، هذه الخطوة، التي قد تشمل إنشاء قاعدة عسكرية وتوسيع شبكة الرصد ودائرة التأثير، تتزامن مع انسحاب وانتهاء التواجد الإيراني من المواقع السورية، الأمر الذي أعاد خلط الأوراق من جديد ، مع خوف وقلق من التمدد الإسرائيلي الذي قد يصل الى الأكراد في شرق سوريا مع علمها بالعلاقة الوطيدة بينها أي اسرائيل مع اقليم كردستان العراق وتواجدها العسكري فيه ..
إسرائيل، التي لطالما تعاملت مع الوجود الإيراني في سوريا كتهديد استراتيجي مباشر، تجد نفسها اليوم أمام معادلة جديدة : فراغ إيراني قد تملأه أنقرة، الدولة العضو في الناتو، والتي تحتفظ بعلاقات تجارية وأمنية متقلبة مع تل أبيب ، وللرد على هذا التمدد التركي داخل سوريا، عمدت إسرائيل إلى ايجاد شبكة اتصال جنوبية سورية من خلال الاتصال مع الدروز في السويداء ومع الأكراد ( قسد ) شرق سوريا الى كردستان العراق التي ترتبط معها بعلاقات وثيقة، وهي تعلم مدى العلاقات المتوترة بين تركيا والأكراد والذي تستغله إسرائيل بشكل فاعل وقوي لخلق ارضية صلبة للتحرك منها ضد اي تواجد تركي من مناطق التأثير عليها .. وتحقيق حلمها للوصول إلى العراق من خلال ممر داوود في الرؤية التوراتية الإسرائيلية الذي لطالما تحلم به وبدأ حسب تخطيطها يتحقق بالفعل .
الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي طالت مواقع عسكرية في العمق السوري، خصوصًا في محيط دمشق وحماة، يمكن قراءتها ليس فقط كمحاولة لتقويض قدرات فصائل موالية لإيران، بل أيضًا كرسالة تحذيرية لتركيا مفادها أن تجاوز خطوط معينة جنوبًا قد لا يمر دون رد. اللافت أن هذه العمليات جاءت في سياق صمت تركي محسوب، وهو ما يعكس إدراكًا تركيًا لتعقيدات المشهد، وللخطوط الحمراء التي لا تزال تل أبيب قادرة على فرضها عبر أذرعها الجوية والاستخباراتية. ومع أن تركيا تحرص على إظهار تحركاتها في سوريا كجزء من ترتيبات أمنية مشروعة، سواء لمحاربة المجموعات الكردية أو لمواجهة الإرهاب، إلا أن انتقالها إلى مناطق خارج نفوذها التاريخي يجعل من هذه التحركات ذات دلالات جيوسياسية أوسع، فأنقرة التي تدير علاقات شائكة مع الولايات المتحدة وتحتفظ بوجود عسكري على تماس مع روسيا وإيران، تحاول في ذات الوقت ملء الفراغات بهدوء دون صدام مباشر مع أي من اللاعبين الكبار، وعلى رأسهم إسرائيل. من جهة أخرى، تتابع إسرائيل هذا التحول بقلق، لكنها تجد نفسها مقيدة بجملة من المحددات ، فالصدام المباشر مع تركيا في سوريا لا يبدو خيارًا مفضلًا، خاصة في ظل وجود قوات تركية رسمية وتحالفاتها مع فصائل قد تتحرك ضد إسرائيل في حال توسع نطاق العمليات، كما أن إسرائيل تدرك أن تركيا ليست إيران، وأن أنقرة لا تنتهج نفس النهج العقائدي في بناء النفوذ، ما يجعل من المواجهة معها أكثر تعقيدًا وأقل قابلية للحسم السريع.
تنظر الدول العربية الى ما يجري الان من تحركات سياسية وتنفيذية على الارض السورية كانها حالة مؤقتة وهي اي الدول العربية لا تتحرك بشكل فاعل وقوي ضد التمرد الإسرائيلي الغير محدود فالخيارات اصبحت متشابكة ومعقدة بعد رحيل النظام السوري وبعد انحسار الوجود الإيراني في سوريا ولبنان، فهل سيكون البديل مقنع لكل الأطراف ام ان ايران ستتخذ موقفاً من اجل مصالحها مع امريكا وإسرائيل تجنبها المواجهة معهما لتثبت للدول العربية ان وجودها كان افضل من عدمه ، وهاهي اسرائيل وتركيا قد حلت محلها، لتقول للدول العربية : ماذا انتم فاعلون ؟ .
يبقى السؤال الكبير معلقًا: هل ستتحول تركيا إلى بديل لإيران في سوريا؟ الجواب لا يزال معلقًا على تطورات الأيام القادمة، لكنه بالتأكيد لم يعد سيناريو بعيدًا ، أنقرة تتقدم بخطى محسوبة، وتختبر ردود الفعل الإقليمية والدولية، وتبني شبكة علاقات تمتد من دمشق إلى أربيل، بينما تنظر إسرائيل إلى هذا التمدد بعين الريبة، مدركة أن سوريا لم تعد ساحة لحسم النفوذ بين طهران وتل أبيب فقط، بل باتت مجالًا مفتوحًا لمعادلات جديدة، تتداخل فيها المصالح مع الحسابات، والتاريخ مع الجغرافيا. في المشهد السوري المتغير، تركيا لا تقدم نفسها كقوة بديلة فحسب، بل كمشروع نفوذ مختلف، مرن، متعدد الأبعاد، وأقل صدامية، لكنه أكثر طموحًا ، وفي ظل تراجع الفاعلين التقليديين، فإن ما يجري اليوم ليس سوى بداية لمرحلة جديدة، ستعيد تشكيل الشرق الأوسط على إيقاع الحذر المتبادل، والتحالفات المؤقتة، والمنافسات التي تُدار في الظل.