لطالما حذر علماء المناخ من الجهل والتغافل والتقاعس البشري، المتعمد في كثير من الأحيان، في مواجهة التحدي الأكبر للإنسانية في عصرنا الحالي، ألا وهو التغير المناخي، الذي بات يلمسه الجميع من مظاهر جنونية للطقس في أرجاء العالم، لعل أبرزها، خلال الأيام القليلة الماضية، تسجيل مستويات قياسية لدرجات الحرارة في عواصم ومدن العالم، ومنها الأوروبية على وجه التحديد.
إليكم ما تم رصده في بريطانيا وفرنسا، خلال الأسبوع المنصرم، من درجات حرارة غير مسبوقة بلغت 34 مئوية وأكثر في لندن، لتقفز إلى 40 درجة وأكثر في باريس، ما أدى إلى تسجيل وفيات ونقل عشرات الأشخاص للرعاية الطارئة وإغلاق مئات المدارس. ولم يكن الأمر ألطف في مدن أوروبية أخرى، خصوصا في إسبانيا والبرتغال، التي تجاوزت درجات الحرارة فيها 45 مئوية، حتى تدخلت العناية الإلهية لإنهاء تفاقم درجات الحرارة في القارة العجوز مع وصول منخفضات باردة، كان لها الأثر الواضح في كسر حدة الحرارة وعودتها إلى معدلاتها الطبيعية. أما اليونان وتركيا، فقد شهدتا اندلاع حرائق الغابات في مناطق شاسعة، ما أدى إلى عمليات إجلاء كبيرة للسكان.
ولبيان خطورة الأمر، فما علينا إلا الإمعان في تقرير نشرته صحيفة “ديلي ميل” البريطانية مؤخرا، أفاد بأنه “لم يسبق أن شهدت بريطانيا موجات حر خلال حزيران (يونيو) كما حدث خلال العام الحالي”، مشيرا إلى “أن متوسط الحرارة الذي تم تسجيله هو أعلى مستوى مسجل منذ بدء تسجيل درجات الحرارة في بريطانيا العام 1884”.
وقد دفع ما تقدم المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إلى إطلاق تحذير “من أن نصف سكان أوروبا قد يواجهون خطرا شديدا من درجات الحرارة المرتفعة بحلول العام 2050، خاصة في الجنوب والشرق والغرب الأوروبي”.
ما حدث ببساطة هو أن المملكة المتحدة وأوروبا عاشتا، خلال الأسبوع الماضي، موجة حر شديدة ناجمة عما يعرف علميا بالقبة الحرارية، وهي ظاهرة مناخية خطيرة بدأت تتفاقم أكثر بسبب الاحتباس الحراري الذي تعاني منه الأرض، بفعل ارتفاع مستويات غازات الدفيئة، خصوصا ثاني أكسيد الكربون والميثان، بفعل تزايد جشع البشر في حرق الوقود الأحفوري، من نفط وغاز وفحم، لإنتاج الطاقة، وعدم المضي بالجدية المطلوبة والالتزام الواجب نحو مصادر الطاقة الخضراء، والعمل على خفض الانبعاثات الكربونية إلى المستويات المنصوص عليها لكل دولة، وفق الالتزامات الأممية.
الخطير أن العلماء يتوقعون موجات حر مشابهة في أوروبا خلال الأسابيع المقبلة بفعل تعاظم مظاهر التغير المناخي، الذي تلقت جهود التصدي له حول العالم ضربة، مع إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وبعد وصوله سدة الحكم في البيت الأبيض -وهو من منكري التغير المناخي- انسحاب إدارته من التزاماتها المناخية الدولية.
انسحاب ترامب أو غيره لا يعني شيئا للطبيعة، التي لن تستطيع البشرية مجتمعة مواجهتها بمزيد من العناد، فلديها من الجبروت ما يجعل بني البشر أثَرا بَعدَ عَيِن في لحظات.
الوقت يمضي، وطوق النجاة يضيق، وما على دول وحكومات وشعوب العالم إلا الالتزام الحقيقي بتنفيذ اتفاقية باريس، التي أبرمت في العام 2015، وصولا إلى درجات حرارة حول العالم لا تزيد، مقارنة بالمستويات الحالية، على 1.5 درجة مئوية، وكل ذلك عبر العمل بيد واحدة للانتقال تدريجيا إلى مصادر الطاقة الخضراء بديلا عن المصادر الأحفورية، وما تسببه من احتباس حراري قاتل لكوكبنا الأزرق، وإلا فإن الأرض سترينا من سخطها ما لا قبل لنا به. ووقتها لن ينفع الندم أحدا.