من سلسلة فكّ لغز الترهل في هندسة النقل والمرور والسلامة المرورية، نصل إلى المحور الرابع: سطح الطريق، الذي لم يعد مجرد بنية مهملة، بل صار مشهدًا يوميًا يُرهق الركب ويهدد الأرواح، ويكشف حجم الغياب الهندسي والرقابي عن واحدة من أخطر واجهات العمران الحضري.
ففي المدن التي تحترم الإنسان، يبدأ العمران من الطريق. أما حين يغيب التخطيط وتغيب معه الرقابة، تصبح الطرق شهادة إدانة حضرية، تصفع المارّين كل صباح وتُربك كل عجلة تسير فوقها.
لا يمرّ سائق في الأردن إلا ويصطدم – مجازًا أو فعليًا – بواقع مرير: حفرةٌ تفاجئه، تخددٌ يسحب مركبته، طبقة إسفلتية مرتفعة ومهترئة، صيانة ارتجالية تركت نقاطًا خشنة، لطخة أسفلت غير مستوية، حاوية نفايات، عامود إنارة، شجرة، إعلان مهترئ، أو حتى أتربة متراكمة تجبره على مغادرة مسربه. ليست هذه عوارض عرضية، بل مشهد دائم لشبكة طرق بلا تخطيط ولا مساءلة.
الأسوأ أن هذه العيوب لا تُوثّق في تقارير الحوادث، بل يُختزل السبب دومًا بـ”خطأ السائق”! وكأن الطريق بريئة، والحفرة العميقة، أو السطح المنحرف، أو التخدد القاتل، لا علاقة لهم بالمأساة.
ولو فُتحت كروكيات آلاف الحوادث لظهرت الحقيقة جليّة: الطريق ذاتها، لا السائق فقط، كانت القاتل الصامت. آلاف الأرواح أُزهقت لأن الطرق لم تُنفذ كما يجب، ثم أُدين السائق وأُغلقت الملفات، وغابت الجهات المسؤولة عن شبكة الطرق.
تلك النظرية البالية التي تنسب ٩٥٪ من الحوادث للسائق، ليست علمًا ولا هندسة، بل وسيلة لإعفاء المقصر الحقيقي. وهنا يأتي الدور الحاسم لنقابة المحامين وللقانونيين: عليهم أن يلجأوا إلى أدلة التصميم الهندسي، وأن يبدأوا بالمرافعة استنادًا إلى عيوب الطريق كسبب للحادث، وأن يُحاسب المقصر، وأن تُطالب شركات التأمين بإنصاف المتضررين كما هو معمول به في العالم المتحضر. كفى تحميل السائق المسؤولية اعتباطًا.
فالطريق ليست فقط وعاءً للمرور، بل مكوّن اقتصادي خطير. العيوب الهندسية لا تقتل فقط، بل تُهلك المركبات، وتستنزف دخل المواطن، وتثقل الاقتصاد بصيانة غير مبرمجة.
من المطبات المختلّة، إلى التخددات، إلى الحفر، إلى الأتربة والعوائق، إلى بقايا الحفريات وصيانة بائسة تترك وراءها سطوحًا متكسرة ومرتفعة… كلها تحوّل الشارع إلى مضمار فوضى، وتقلل من طاقته الاستيعابية وتُضاعف احتمالات التصادم.
ومع ذلك، لا نتهم الجهات التنفيذية بتعمد الإضرار، بل نُقر بأن الكارثة هي غياب التخصص. لا مهندسين مؤهلين، لا خبراء في السلامة المرورية، ولا حتى إدراك لدى متخذ القرار أن توقيعه على المخطط يعادل توقيعًا على حياة إنسان.
والذريعة الجاهزة دائمًا: “لا توجد مخصصات”. لكنها ذريعة ساقطة أمام الحقيقة: أن صيانة هذه العيوب غير مكلفة، ويمكن تنفيذها فورًا، لو توفرت الإرادة.
فالدليل البريطاني (DMRB) أو الأمريكي (AASHTO) – أو الأردني إن وُجد – يوضح بدقة كيف تُعالج التخددات والانبعاجات، كيف تُسوّى السطوح، وكيف تزال العوائق. وإن كنا نمتلك هذه الأدلة، فلماذا لا نطبّقها؟ وإن لم تكن بين أيدينا، فلماذا لم نضعها؟
الطريق ليست مجرد إسفلت… إنها اختبارٌ يوميّ لضمير الجهات المسؤولة. وإن كنا جادين في حماية الأرواح، فلابد من إدراج الطريق وعيوبها كطرف قانوني في معادلة الحوادث، لا كخلفية صامتة لمشهد الموت.
وسنعود لاحقًا إلى عناصر أخرى من منظومة النقل والمرور والسلامة المرورية… فما زالت الأرصفة تئن، والحفر والمطبات تتكاثر، والمواطن يدفع وحده الثمن….
والله وليّ التوفيق..