Home اختيارات رئيس التحريرمواقف المركبات: الحلقة المفقودة في حل أزمة المرور وسلامة الطريق (9)

مواقف المركبات: الحلقة المفقودة في حل أزمة المرور وسلامة الطريق (9)

د. نضال القطامين

by editor
19.3K views
A+A-
Reset

مشكلة مواقف المركبات في الأردن ليست مسألة تنظيمية بسيطة ولا خدمة هامشية، بل واحدة من أبرز نقاط الخلل في هندسة النقل والتخطيط الحضري، وعامل رئيسي يُفاقم الازدحامات اليومية، ويُضعف كفاءة شبكة الطرق، ويرفع معدلات الحوادث، خصوصًا حوادث الدهس والصدمات التي تطال أكثر الفئات هشاشة: الأطفال وكبار السن.

في بلد تجاوز عدد المركبات فيه مليوني مركبة، غياب أي تخطيط علمي للمواقف لم يعد تفصيلًا يمكن تجاهله، بل أصبح عنوانًا لفشل مؤسسي تتحمله الجهات المسؤولة عن الطرق والتنظيم الحضري. على عكس الممارسات الدولية التي تُعامل المواقف كجزء أساسي من منظومة النقل، لا تزال المواقف في الأردن تُدار بعشوائية ومن دون بيانات دقيقة أو رؤية متكاملة.

الممارسات العلمية العالمية واضحة: المواقف لا تُخطط عشوائيًا، ولا تُحل بالمخالفات وحدها. يجب أن تُبنى وفق مسوحات تفصيلية لأحجام المرور، وعدد المشاة، ونوعية الأنشطة (سكنية، تجارية، تعليمية، صحية)، ومدد الوقوف، والفترات الزمنية، وأهداف التوقف (تحميل وتنزيل، خدمات، مبيت، ضيوف)، وبالاستناد إلى أدلة معترف بها عالميًا.

أما في الأردن، فالمشهد اليوم معروف: وقوف عشوائي على الشوارع الشريانية المخصصة للنقل السريع، وتوقف عند التقاطعات والدواوير يُعدم الرؤية ويُضاعف احتمالية الحوادث، واصطفاف أمام المستشفيات والمدارس والمحال يُربك الحركة ويُفقد الأرصفة وظيفتها ويدفع بالمشاة، خصوصًا الأطفال، إلى العبور بين مركبات مصطفة مضاعفة في مغامرة مميتة.

الوقوف والتوقف غير المنظم أصبح أيضًا من أهم أسباب الازدحامات المرورية في المدن الكبرى مثل عمان والزرقاء وإربد. هذه الفوضى تُقلل المسارب الفعالة، وتُضاعف نقاط التعارض، وتُبطئ الحركة، وتُجبر رجال الأمن على التواجد الميداني الدائم لتنظيم ما كان يجب أن تُنظمه الهندسة والتخطيط. غياب المواقف لا يعطل المرور فقط، بل يُحول الطرق إلى ساحة نزاع يومي بين المركبات والمشاة، ويجعل من السائق والمشاة ضحايا ومتهمين في آنٍ معًا.

الحلول موجودة عالميًا لكنها غائبة محليًا. المطلوب: تقسيم المدن إلى مناطق مرورية (zones)، إجراء مسوحات دقيقة لحجم الطلب على الوقوف، بناء مواقف خارج نطاق الشوارع باستخدام أراضٍ عامة أو مستأجرة، تهذيب الشوارع هندسيًا لاستيعاب الوقوف المنظم دون الإضرار بانسيابية الحركة، إلزام المشاريع الكبرى بتأمين مواقف كافية ضمن حدودها، وربط كل ذلك بأنظمة إدارة ذكية تُنظم الوقت والتكلفة وتوجّه السائقين إلى المواقف المتاحة.

وهناك أيضًا ممارسات عالمية متقدمة يجدر ذكرها:
١) تقنين الوقوف داخل مراكز المدن مع توسعة المواقف الخارجية وربطها بالنقل العام (Park & Ride).
٢) تطبيق التسعير الديناميكي لتوزيع الطلب على المواقف بكفاءة وعدالة.
٣) دمج متطلبات المواقف ضمن شروط الترخيص لكل مشروع أو مرفق جديد.
٤) استخدام أنظمة ذكية تعرض للسائقين مواقع المواقف المتاحة وأسعارها قبل الوصول إليها.

غياب المتخصصين القادرين على إدارة هذا الملف جعل من المواقف جزءًا من أزمة المرور بدل أن تكون جزءًا من حلها. أصبحنا أمام حلقة مغلقة: غياب المواقف يخلق الفوضى، الفوضى ترفع معدلات الحوادث، والحوادث تُبرَّر بخطأ الإنسان وحده، بينما يُعفى الطريق والبنية التحتية من مسؤولياتها.

الطريق، بكل عناصره من مسرب وموقف وتقاطع ودوران، هو شريك مباشر في صناعة الانسيابية أو الفوضى، والسلامة أو الخطر. ما لم تُوضع المواقف في موقعها الصحيح ضمن هندسة الطريق، ستظل المدن الأردنية تختنق يوميًا، وتدفع من وقتها واقتصادها وراحة سكانها بل ومن دماء الناس ثمن غياب الحل.

المطلوب اليوم مشروع وطني حقيقي، لا شعارات ولا حملات مؤقتة، مشروع يرعى المتخصصين ويُمكّنهم من إعادة توزيع الحق في استخدام الطريق بعدالة للجميع، ويعترف بأن حل أزمة المواقف ليس ترفًا هندسيًا ولا خيارًا سياسيًا، بل ضرورة مهنية وقانونية تُقاس يوميًا بعدد الحوادث التي يتم تفاديها، وبحجم الازدحامات التي يتم حلها، وبقدرة الشارع على استيعاب مركباته ومستخدميه بكفاءة وسلامة.

فقط عندها، نستطيع القول إننا بدأنا نُعالج أزمة المرور من جذورها، لا نكتفي بملاحقة نتائجها على السطح….

You may also like

Leave a Comment

اخر الاخبار

الاكثر قراءة

جميع الحقوق محفوظة العموم نيوز

Are you sure want to unlock this post?
Unlock left : 0
Are you sure want to cancel subscription?
-
00:00
00:00
Update Required Flash plugin
-
00:00
00:00