تسابق الأمم والشعوب الزمن كي تلحق بالتطورات الهائلة التي تحدث في مجالات الحياة كافة، ولا تعد ما كان يجب إنجازه قبل سنوات إنجازا اذا تحقق اليوم، وكأننا نسجل تقدما ملحوظا، وذلك عندما تضاءلت الآمال، والتطلعات الوطنية.
وقد نمضي الوقت في مشهد الحضور في المحافظات حتى يصبح اعتياديا، وذلك دون الوصول إلى حقيقة الأهداف الكبرى لعملية الحكم، واعمال الفكر والابداع في حل المعضلات الحقيقية التي تواجه المجتمع، وتتسبب في معاناته، وليس اقلها مشكلة البطالة والمياه، ومديونية شركة الكهرباء، وعجز الموازنة العامة المزمن، والمديونية الخارجية المتفاقمة، والارتهان للغاز الإسرائيلي.
ولا شك اننا نستطيع ان نستبعد المطالب العامة الرئيسية مؤقتا، ولكنها سرعان ما ان تحضر الى الواجهة مجددا، وتفرض نفسها على أجندة الدولة.
والإشكالية الرئيسية في الاردن لا تكمن في عدم متابعة بعض أوجه القصور الحكومي في عمل الوزارات والدوائر على اهميتها، وإنما في وضع الاستراتيجيات والخطط العملية التي تعنى بالنهوض بالقطاعات كافة.
ولان التربية والتعليم أساس تقدم المجتمعات ورفعتها فيمكن الاهتمام أكثر بوضع حل مناسب لمئات المدارس المستأجرة في المحافظات، والتي تدفع ايجارات سنوية تكفي لبنائها، وحيث أن تكلفة بناء مدرسة واحدة لا تزيد عن ايجارها لمدة سنتين على ابعد تقدير.
وربما ان تحول الأردن الى التعليم التقني ما يزال يسير بخطوات متثاقلة وغير ملموسة، ونحتاج إلى حراك حكومي ووطني كبير ومتواصل، وخلال وقت قياسي لتَوقيف المأساة الناجمة عن سيل الخريجين الجامعيين الذين اقتربوا من حاجز المئة الف خريج سنويا، وفي كل التخصصات التي لم يعد لها طلب في سوق العمل.
وحيث ان إعادة النظر في المناهج الدراسية بات ضرورة ملحة لاعادة بناء قدرات الأجيال الأردنية القادمة، وتطلعاتها المستقبلية وليكون الطالب الأردني في مصاف نظيره في العالم.
ونحن يجب أن نعي ما احدثته دول الاقليم التي كنا نسبقها بفراسخ، وقد شرعت في تغييرات جوهرية شملت بنيتها الاقتصادية والاجتماعية.
وعلينا أن نغار من دول كنا نساهم في تأسيس مؤسساتها وإدارتها العامة، وتنظر الى سياسينا بوقار، واليوم اضحت تتقدم علينا، وبعضها راحت تحاكي دول أوروبا في أنظمتها وبنيتها التحتية.
واليوم يتم تجاوزنا بشكل واضح، وقد تراجع الحلم الأردني، وانكفأ دورنا الإقليمي لعدم الحفاظ على الاليات المتبعة في إدارة مصالح الدولة العليا.
والدولة الاردنية تحتاج لبناء استراتيجيات في الصحة، والتعليم، وفي السياحة، والنقل، وفي الإدارة، وفي الخدمات العامة، وفي تنظيم سوق العمل، وفي وضع تصور اكثر منطقية للتعامل مع الدور الإنساني للدولة فلا يعقل ان يتحول ما يربو على ربع مليون أسرة الى العيش على حساب صندوق المعونة الوطنية، وبما يشبه توطين الفقر في المجتمع الأردني، ويعتبر ذلك إنجازا حكوميا.
ولا يجوز ان تظل الجامعات، والكليات الجامعية التي اقتربت من حاجز الاربعين تضخ بشكل هستيري في احشاء المجتمع جيشا من البطالة من مختلف التخصصات يتم زرعه في قلب كل أسرة اردنية مكلومة وقلقة على مستقبل ابنائها، وبما يشكل قلقا عاما لمستقبل الدولة الأردنية، وبحيث لا يجد مئات الالاف منهم فرصا في سوق العمل، وتتعطل بهم قاطرة الحياة.
وليس معقولا ان تواصل استباحة سوقنا الوطني العمالة الوافدة من مختلف الجنسيات، والتي تفرض بطالة قسرية قاسية على اجيالنا المتعاقبة، وكأننا نحل مشكلة دول أخرى في مجال البطالة، ونصنع بطالة موازية في اجيالنا التي يجب ان نحرص على مستقبلها واحلامها وتطلعاتها الوطنية.
وفي مجال تنظيم سوق العمل على الحكومة ان تحصر اعداد العمالة الوافدة في كل القطاعات، وتتأكد من مدى التزامها بدفع قيمة تصاريح العمل الخاصة بها، وتقييم مدى الضرر الذي تلحقه هذه العمالة السائبة في المحافظات على الاقتصاد الوطني.
ويجب لمواجهة مشكلة البطالة المستفحلة في الاردن من أن نحرك برنامجا وطنيا كبيرا للتدريب، والتشغيل تساهم فيه مؤسسة التدريب المهني، والقطاع الخاص والجيش العربي لإعادة تأهيل الأجيال الأردنية، وحصر كافة المهن التي يمكن للأردنيين اتقانها.
والتناقض في الأرقام الرسمية يجب ان يتوقف، وخاصة من ناحية تفشي البطالة، وحجم العمالة الوافدة، وفي هذا الصدد اذكر ان وزير عمل سابق اقام في لواء ذيبان يوما تشغيليا، واحضر معه عدة شركات لغايات التشغيل، ودعونا بدورنا العاطلين عن العمل، وسجل المئات منهم في الشركات، وبعد انفضاض اليوم التشغيلي حاول الشباب الاتصال بأرقام الشركات، وكانت لا ترد.
وأما دور الوزير فكان في جمع الأرقام من كل المحافظات، والاعلان عن ان ثمانين الفا من العاطلين عن العمل تم تشغيلهم في عهده في تلك السنة.
والسفارات الاردنية يجب ان تتحول الى وحدات لتسويق العامل الأردني، والكفاءات الاردنية في الخارج.
وعلى الحكومة ان تفعل دورها في نشر جانب من ثقافة الاردنيين للجذب السياحي وتسويق منجزات الاردنيين.
ونستطيع عمل جناح خاص دائم لما اشتهر من منتجات الأردنيين في كل أماكن تواجد الجاليات الاردنية والعربية، وتسويق ثقافة المجتمع الأردني.
وعلينا أن ننشغل بمعركة التنمية، وتطوير بلدنا، وبعث طاقات الإنسان الأردني المبدع.
ويجب وقف التراجع الذي بات يلحق بنا في مجال الصحة العامة، وقد كنا مضرب مثل في الاقليم، وليس ادل على ذلك من أن مجرد نقل مريض في حالة خطرة من مستشفى يعجز عن علاجه الى مستشفى اخر اقدر على التعامل مع حالته الصحية يحتاج الى استنفار العديد من النواب والواسطات لغاية تأمين سرير له، ناهيك عن تراجع القدرات، وخفوت الحافز للعطاء.
ويجب احكام الرقابة علي اليات التعيين في المواقع القيادية في الدولة، ولربما ان تراجع الإدارة العامة كان سببه تدخلات الطبقة المتنفذة المستمرة في الادارات، وهو ما انعكس سلبا على مستوى الخدمات العامة المقدمة للمواطنين.
وتفشت أمراض الواسطة والمحسوبية والرشوة في أعمال بعض الادارات، والتي شهدت تراجعا في منظومة القيم التي كانت تحكم الإدارة العامة في الاردن.
وفقدنا الدوافع للتطوير والابداع لان العديد من الكفاءات استبعدت من مسيرة الدولة لصالح من تدفع بهم الواسطة والمحسوبية الى المقدمة.
واستخدمت شعارات لغاية الحصول على المكتسبات، وتم التشكيك بالمشاعر الوطنية للاخر الوطني للاستئثار بمناصب الدولة.
وعلى الرئيس أن يظهر تطلعات أكبر في إعادة بناء الدور الإقليمي للأردن، وان يواصل التحرك مع دول الجوار لصالح القضايا العربية الرئيسية، وان يلتقي بالجاليات الاردنية من خلال تفعيل دور السفارات، وان يقدم للأردنيين في الخارج تسهيلات كي يؤسسوا اعمالا في وطنهم، وبما يعود بالنفع العام على الموازنة العامة، وعلى التعامل مع معضلة البطالة المتفاقمة.
ولا بد من أن نعلي من شأن الكفاءة والاقتدار في تقدم الدولة ورفعتها، وان نتوقف عن المعارك الجانبية، واشغال البلد عن اهدافها العليا.
وبذلك يكون دور الرئاسة في وضع الاستراتيجيات والخطط المتفرعة عنها، ويكون لديها رؤية لمستقبل الاردن لكل خمس او عشر سنوات، ومراجعة ما تحقق منها.
ونحن نريد أن ننطلق بوطننا لا ان نبقى اسرى المصالح الضيقة، وصراع النخب الطاردة للوطنين، والذي ينعكس سلبا على الوضع الداخلي.
ذلك ان الأردن الحلم يحتضن كل أبنائه بلا تفرقة، ويتقدم فيه الأكثر عطاء ونزاهة واستقامة.
والأردن العظيم لجميع اهله، ولا يطعن فيه بولاء احد، ولا يجوز نزع الوطنية عن المخالف السياسي، ومن يخالف القانون والنظام فالقضاء متكفل به.
والناس يعرفون الصالح من المفسد في العمل العام.