أنا فلسطين… أعرف أبناءي جيداً. أعرف الذين مرّوا على ترابي عابرين، وأعرف الذين التصقوا بي كالجذور في الأرض. ومن بين كل الأسماء، يلمع اسم أنس جمال الشريف كنجمة عنيدة رفضت أن تنطفئ رغم عتمة الحصار.
في غزة، تلك البقعة الضيقة المحاصرة بين البحر والسياج والأسلاك، حيث يتقاطع الفجر مع الدخان، وحيث تلتصق أرواح الشهداء بالجدران المحترقة، وُلد أنس. جاء إلى الدنيا في مخيم جباليا، بين أزقة ضيقة كالممرات بين قبور، وحارات تحفظ قصص النكبة جيلاً بعد جيل. ومنذ أن فتح عينيه، كانت فلسطين أمامه لا على خرائط الكتب، بل في وجوه الناس، في رائحة التراب، في حكايات الجدات عن عسقلان “المجدل” التي أُخذت منهم بالقوة.
أنس لم يعرف طفولة هادئة؛ في غزة، الأطفال يكبرون بسرعة لأن القصف يختصر العمر، ولأن الحصار يعلّمهم مبكراً أن العالم ليس عادلاً. شبَّ وهو يرى الظلم يحيط به من كل الجهات، فاختار أن يواجهه لا أن يهرب منه. حمل الكاميرا كما يحمل المقاتل بندقيته، وقرر أن يكون عيناً تنقل الحقيقة ولساناً يفضح القتلة.
لم يكن مجرد صحفي، كان شاهداً على جريمة مستمرة. في كل بثّ مباشر، كان يعلم أن عدسة الكاميرا قد تتحول فجأة إلى مرآة تعكس لحظة موته، ومع ذلك لم يتوقف. كان يقول: “من يملك القدرة على نقل الحقيقة ثم يصمت، فهو شريك في الجريمة”.
وفي صباح العاشر من أغسطس ٢٠٢٥، سبقت الرصاصة الكلمة، وسبق الصمتُ الصوت. لكن أنس، وكأنه كان يقرأ فصول نهايته، كان قد ترك وصية كتبها في السادس من أبريل من العام نفسه، وصية ليست كأي وصية. لم تكن تقسم الميراث، بل وزّعت أمانةً على الأمة بأكملها: فلسطين أولاً، أطفالها المذبوحون، نساؤها الثكالى، شيوخها الصابرون.
كتب:
“إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي… أوصيكم بفلسطين، درةَ تاج المسلمين… أوصيكم بأهلي، بابنتي شام، بابني صلاح، بوالدتي، بزوجتي أم صلاح، كونوا لهم سنداً بعد الله.”
وصيته ليست نصاً عادياً، إنها صفعة أخلاقية للعالم. كل جملة فيها حجر، وكل كلمة سكين في خاصرة الصمت. كيف يقرأها العالم ولا يشعر بالخجل؟ كيف يواصل حياته وكأن غزة لم تُحاصر، وأطفالها لم يُقتلوا، وبيوتها لم تُسحق تحت آلاف الأطنان من القنابل؟
أنس لم يكتب فقط عن نفسه، كتب عن كل طفل فقد أمه، عن كل أم احتضنت جثة ابنها، عن كل شاب أُخرج من تحت الركام وعيناه معلقتان بالسماء وكأنهما تسألان: لماذا؟
رحل أنس، لكن روحه بقيت بيننا. في المخيمات، في أصوات الأذان المخلوطة بأصوات الانفجارات، في كل صورة طفل يبتسم رغم الخراب. وصيته الآن تتناقلها الألسن والقلوب، ليس لتكون ذكرى باهتة، بل لتكون عهداً.
ربما لم يتحقق حلمه بالعودة إلى عسقلان
لكن في موته، صنع أنس عودته الخاصة. عاد في قلوب كل من قرأ كلماته، في دمعة كل أم فلسطينية، في قَسم كل مقاوم على أن يبقى الطريق مفتوحاً نحو الحرية. لقد عاد إلى عسقلان بطريقته؛ لا جسداً يسير على الأرض، بل روحاً تعانق سماءها.
وصيته، تلك التي خطّها قبل أن تبلل دماؤه الرمال، تحوّلت إلى منارة، وإلى مرآة تكشف وجوه المتفرجين، وإلى جرس إنذار في أذن الأمة: إما أن تكونوا على العهد، أو تكونوا على هامش التاريخ.
أنس كان يعرف أن الشهادة ليست موتاً، بل انتقال من موقع الكلمة إلى موقع الأسطورة. كان يدرك أن الدم أبلغ من كل بيان، وأن الصورة الأخيرة قد تصبح شعلة تضئ دروب المقاومين لعشرات السنين.
واليوم، حين نقرأ كلماته، نشعر وكأنه يطل علينا من خلف الركام، مبتسماً ابتسامة الواثق بأن دمه لن يضيع هدراً، وأن الكاميرا التي حملها لم تسقط، بل انتقلت من يده إلى يد كل حر في هذا العالم.
أنا فلسطين… أكتب عنك يا أنس كما تكتب الأم عن ابنها. أحتضنك في ترابي كما تحتضن الأرض المطر بعد جفاف. دمك صار نهراً في عروقي، وكلماتك جمرات في قلبي، وصورتك ستبقى على جدراني ما بقي فيّ نفس.
سلام عليك يوم ولدت في المخيم، ويوم خرجت بالكاميرا في وجه القتلة، ويوم ارتقيت شهيداً وأنت ثابت على المبدأ. سلام على كل خطوة خطوتها، وعلى كل كلمة قلتها، وعلى كل دمعة خبأتها عن الكاميرا كي تظل صلباً.
نم قرير العين يا أنس، فثمة من قرأ وصيتك وأقسم أن لا يتركها تموت، وثمة من سيسير على الدرب حتى تشرق شمس الحرية من عسقلان إلى غزة، ومن النهر إلى البحر.
وهنا، بين دخان الحرب وضوء الفجر، أعرف أن الحجر قد انشق لسماعك، وأن الشجر قد بكى على فراقك… لكنك يا أنس لم تفارقنا، بل صرت جزءاً من هواء هذه الأرض… وأنت، كفلسطين، باقٍ ما بقي الليل والنهار.