في عالم تتسارع فيه الخطى نحو المستقبل، أصبحت البيانات أثمن من النفط، وأقوى من السلاح، وأشد تأثيرًا من الموارد التقليدية. لم تعد الملفات الرقمية مجرد أدوات إدارية، بل تحوّلت إلى أصول استراتيجية تصنع بها القرارات، وتُبنى عليها الدول. وهنا يظهر مفهوم السيادة الرقمية بوصفه واحدًا من أهم تحديات القرن الحادي والعشرين.
عندما أطلق وزير الاقتصاد الرقمي والريادة في الأردن، سامي السميرات، المرحلة الأولى من مشروع البيانات الوطني، لم يكن ذلك خطوة تقنية فحسب، بل إعلانًا واضحًا أن الدولة قررت أن تمسك بزمام مصيرها الرقمي. ففي زمن تهيمن فيه شركات عابرة للقارات على مراكز البيانات والتقنيات السحابية، بات من الخطر ترك البيانات السيادية تتنقّل بين خوادم لا نعلم أين توجد، ولا من يطّلع عليها.
لقد شكّلت البيانات، كما عبّر الوزير، “ثروة وطنية يجب إدارتها كما تُدار الموارد الاستراتيجية”. ومن هنا بدأت القصة، حيث تعاونت الوزارة مع ست جهات حكومية، وتمكنت من تطوير 25 حالة استخدام فعلية للبيانات، أسهمت في تحسين جودة الخدمات، ورفع الكفاءة، وتعزيز الأثر الاقتصادي والاجتماعي.
ولكن السؤال الأكبر لم يكن في حجم البيانات، بل فيمن يتحكم بها. فمنذ سنوات، بدأت تظهر إشارات واضحة على أن الدول التي لا تملك بناها الرقمية الوطنية، ستبقى رهينة للتقنيات الخارجية، وأن من لا يبني سحابته الوطنية، سيُبقي رأسه في سحابة الآخرين.
وفي ظل هذه التحديات، ظهر مفهوم “الذكاء الاصطناعي السيادي”، وهو أكثر من مجرد مصطلح. هو دعوة للدول أن تُطوّر تقنياتها الذكية بنفسها، أن تُدير بياناتها داخل حدودها، وأن تُدرب أبناءها ليكونوا حماة العصر الرقمي.
ففي القمة العالمية للحكومات، أشار المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة “نيفيدا” إلى أن الذكاء الاصطناعي سيُنجز 70% من مهام المستقبل، وأن من لا يتحكم بخوارزمياته، قد لا يتحكم بمصيره. فالعقول الاصطناعية بدأت تتخذ قرارات في الاقتصاد، والصحة، والأمن، وحتى السياسة، فكيف نسمح بأن تكون هذه القرارات مبنية على بيانات لا نتحكم بها، أو خوارزميات لا نفهمها؟.
وهنا يكمن التحدي: كيف نوازن بين الانفتاح الرقمي، والسيادة الوطنية؟
هل يمكن أن نتبنى الذكاء الاصطناعي دون أن نفقد السيطرة؟
هل نستخدم الحوسبة السحابية دون أن نخضع لقوانين مثل “CLOUD Act” الأمريكي، الذي يسمح بالاطلاع على البيانات من أي مكان في العالم؟
الجواب ليس سهلًا، ولكنه واضح: السيادة الرقمية تحتاج إلى شجاعة استثمار، ورؤية استراتيجية، وبنية تحتية، وطنية. تحتاج إلى مراكز بيانات محلية، إلى تشريعات تُلزم بقاء البيانات داخل الحدود، وإلى مهارات بشرية قادرة على التطوير والإدارة.
وهنا يظهر الطريق أمامنا:
• أن نُنشئ سحابة سيادية، تكون مخزنًا وطنيًا آمنًا للبيانات.
• أن ندعم شركاتنا المحلية الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي.
• أن نستثمر في تدريب العقول لا في استيراد الحلول.
• أن نُنشئ أطرًا أخلاقية وتشريعية تُحدد من يملك ماذا، ومن يقرر ماذا، في عالم تحكمه الخوارزميات.
السيادة الرقمية ليست حلمًا، بل حاجة ملحّة. وقد بدأت بعض الدول العربية، ومنها الإمارات والسعودية، بوضع اللبنات الأولى. وإذا ما استمرّت هذه الجهود، فسنبني مستقبلًا لا نخاف فيه من تسريب، أو اختراق، أو هيمنة رقمية، بل مستقبلًا تصنعه البيانات الوطنية، بعقول وطنية، لخدمة الأهداف الوطنية.
السيادة الرقمية ليست مجرد تقنية… إنها إرادة دولة.