د. أشرف الراعي
لا تزال الحدود الأردنية الشمالية تواجه أحد أخطر التحديات الأمنية؛ والمتمثلة في تدفّق المخدرات من الداخل السوري. الجيش العربي يقظ لأي محاولات من أجل المساس بأمن الأردن، ويخوض يومياً معارك صامتة في مواجهة محاولات التسلل والتهريب. أما الوقائع فأثبتت مراراً أن ما يحدث ليس مجرد نشاطات فردية أو عصابات صغيرة، بل عمليات منظمة تديرها شبكات مدعومة، في أوقات سابقة، من قوى ظلامية ونظام سابق استثمر في الفوضى ونشر الفساد والتطرف.
رغم تعقيدات المشهد السوري، هناك اليوم بوادر من دمشق لمحاولة السيطرة على هذا الملف الخطير. إلا أن حجم التحديات أمام السلطات السورية لا يزال كبيرا. ومن دون جهود حقيقية وحازمة في ضبط الحدود من الجانب السوري، يبقى الأردن وحده في ساحة المواجهة، يتحمل كلفة أمنية واقتصادية واجتماعية متنامية.
الأخطر أن هذه الشبكات لا تعمل بمعزل عن مصالح إقليمية أوسع. بل تشكل جزءا من أدوات النفوذ الإيراني في المنطقة، التي تحاول المرور عبر الأراضي السورية لتوزيع عبثها وأجنداتها في أكثر من اتجاه. فالمخدرات هنا ليست مجرد تجارة محرمة، بل سلاح موجه لزعزعة المجتمعات وضرب استقرار الدول.
وفي ظل هذه التحديات، تبقى الدولة الأردنية متمسكة بثوابتها، منفتحة على دعم استقرار سوريا – كما عبّر عن ذلك وزير الخارجية أيمن الصفدي غير مرة – عندما رحب بقرار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب برفع بعض العقوبات عن سوريا في وقت سابق، وكما رحب بقرار العديد من دول الاتحاد الأوروبي برفع الحصار الذي أطبق على سوريا بفعل سياسات سابقة.
المطلوب اليوم من الحكومة السورية ليس مجرد تصريحات أو محاولات محدودة، بل استراتيجية شاملة لمكافحة التهريب والإرهاب معا، وبالتعاون مع الأردن. فالإرهاب وتجارة المخدرات يتحركان بأجندة واحدة، ويستغلان الوقت لتحقيق أهدافهما الإجرامية الخطيرة.
الأردنيون يثقون بقدرات جيشهم وأجهزتهم الأمنية، ويعلمون أن الوطن محصّن بإرادة قيادته ووعي شعبه. لكن هذا لا يعفي المجتمع الدولي أيضا من مسؤوليته في دعم جهود الأردن، وتعزيز التعاون الأمني والاستخباراتي في مواجهة هذا الخطر العابر للحدود.
المعركة ضد المخدرات القادمة من سوريا ليست معركة حدودية فقط، بل معركة كرامة وسيادة واستقرار. وعلى الجميع أن يدرك أن أمن الأردن هو ركيزة من ركائز أمن الإقليم برمته، وأن الصمت عن هذه الظاهرة هو تواطؤ غير مباشر مع محاولات تنفيذ مشروع الفوضى والانهيار الذي تريد إيران تصديره للعرب.
فقط من خلال التنسيق الوثيق، والإرادة السياسية الجادة، والاعتراف بأن أمن الأردن وسوريا مترابطان، يمكن التصدي لهذا الخطر المتفاقم وحماية مستقبل الأجيال القادمة من أن يتحولوا إلى ضحايا لتجارة المخدرات من فلول النظام السوري السابق.
تحولت الكثير من الأرصفة في عمان من مساحة للمارة إلى ساحات محتلة: سيارات مصطفة بلا رحمة فوق الممرات، وأشخاص يدّعون أنهم “فاليه” يفرضون سيطرتهم على الشارع، وكأنهم أوصياء عليه، دون حسيب أو رقيب، وإن حالفك الحظ وتفاديت هؤلاء، ستفاجأ بأشجار نمت بطريقة عشوائية أو ببسطات تمددت حتى التهمت الأرصفة.
في كل صباح، يمضي سكان عاصمتنا إلى أعمالهم ومدارسهم ومشاويرهم اليومية، يخرجون بثقة وأمل، ويمنّون النفس بأن يجدوا في شوارع المدينة مساحة آمنة للمشي والتنقّل، ولو بضع خطوات على رصيف يحترمهم كأشخاص وكمواطنين، لكن الواقع المؤلم في بعض مناطق العاصمة، كالصويفية وجبل الحسين وغيرهما من الشوارع الحيوية، يقول غير ذلك.
ما يحدث ليس مجرد فوضى تنظيمية، بل أصبح يشكّل خطراً حقيقياَ على حياة الناس؛ حوادث دهس مروعة، أطفال وكبار سن يضطرون للسير في الشارع، وأمهات يحملن أطفالهن ويتنقلن بين السيارات، بحثا عن فسحة آمنة للمشي. فهل هذه هي المدينة التي نحلم بها؟.
من هنا، وبثقة ومحبة، أتوجّه بدعوة إلى معالي أمين عمّان، الدكتور يوسف الشواربة، لإجراء زيارة ميدانية سريعة إلى تلك المناطق… زيارة بعين المسؤول، لا تحتاج إلى موكب أو تجهيزات؛ فقط نظرة صادقة إلى واقع يُفترض ألّا يرضينا.
نعلم أن لدى الأمانة خططاً ورؤى متقدمة، وأن هناك جهودا لا تُنكر لتحسين البنية التحتية، ولكن ما نحتاجه اليوم هو لمسة إنسانية تُعيد الرصيف للمشاة، وتحمي أرواحهم، وتحترم حقهم في التنقل الآمن.
الشارع ليس للسيارة وحدها، والرُصُف ليست أملاكا خاصة.. إنها حق عام، يجب أن يبقى مصانا؛ فكرامة المدينة تبدأ من احترام تفاصيلها الصغيرة، والرُصُف ليست تفصيلاً ثانوياً… بل هي مرآة حضارتنا.
آن الأوان لأن نستعيد الأرصفة، لا بالشكاوى، بل بالتنظيم والرقابة والإرادة.
أعطوا الناس حقهم في المشي.. فقط المشي.
مع انتخاب مجلس جديد لنقابة الصحفيين الأردنيين، تجددت الآمال وارتفعت سقوف التطلعات. فلم تعد التحديات خافية، ولا الرهانات هامشية. ففي وقت يعيش فيه الإعلام الأردني تحولات معقدة، تتقاطع فيه الضغوط الاقتصادية مع التشريعية، وتتزايد فيه الفجوة بين العمل الإعلامي التقليدي ومتطلبات العصر الرقمي، تصبح مهمة النقابة أكثر من مجرد تمثيل مهني؛ إنها مسؤولية وطنية.
من بين أولويات هذا المجلس، تتصدر الحاجة إلى إصلاح شامل للتشريعات الناظمة للعمل الصحفي والإعلامي؛ فالقوانين السارية، وعلى رأسها قانون نقابة الصحفيين، وقانون المطبوعات والنشر، والمواد المتناثرة في قانون الجرائم الإلكترونية وقانون العقوبات، لا تنظم واقع الإعلام المعاصر، ولا تحمي الصحفي، ولا تواكب التطور الحاصل في بنية المحتوى ومنصاته واحتياجات الجمهور.
لقد أضحت هذه النصوص، في كثير من جوانبها، أدوات تقييد لا تنظيم، ومعوقات لا محفزات؛ إذ تسمح بتعدد الجهات الرقابية، وتشجع على فرض قيود على المحتوى بحجج غير واضحة، وتُبقي على مواد فضفاضة تفتح الباب واسعاً أمام التوقيف والمساءلة الجنائية في قضايا النشر، فضلاً عن عدم الوضوح الكامل لبيان من هو الصحفي والإعلامي والفارق بينهما!
إن نقابة الصحفيين، مطلوب منها اليوم أن تتولى زمام المبادرة، وأن تخرج من موقع ردّ الفعل إلى صناعة القرار، ويتحقق ذلك عبر تشكيل لجنة قانونية مستقلة من خيرة الصحفيين والخبراء، تُكلف بمراجعة المنظومة التشريعية واقتراح تعديلات جوهرية، تمهيداً لحوار وطني مع مجلس الأمة والحكومة، يُفضي إلى تحديث هذه القوانين بما ينسجم مع الدستور الأردني، والالتزامات الدولية للمملكة في مجال حرية الرأي والتعبير.
هنا، لا بد من التأكيد أن بيئة العمل الإعلامي لا يمكن أن تزدهر دون مظلة تشريعية تحمي حرية الصحفي، وتضمن حقه في الوصول إلى المعلومة، وتحصر العقوبات في المخالفات المهنية ضمن الإطار التأديبي لا الجزائي، وتحترم التعددية وتُعزز المهنية والاستقلالية.
كما أنه مطلوب من الصحفيين الالتزام بالمهنية والضوابط الأخلاقية، لكن الالتزام لا يُبنى على الخوف، بل على الشعور بالقدرة على العمل بمهنية عالية، فلا يمكن لأي إعلام أن يُنتج خطاباً عقلانياً ومسؤولاً، وهو يعمل تحت سيف الرقابة أو هاجس العقوبة، لذلك، فإن إصلاح التشريعات لا يعني فقط تحسين شروط العمل الصحفي، بل هو ركيزة أساسية في معادلة التنمية السياسية والاجتماعية. فالإعلام ليس مجرد ناقل خبر، بل شريك في بناء الوعي العام، وصانع رأي، ومرآة لما يحدث في المجتمع، ومؤشر على منسوب الحريات في الدولة.
وحدها التشريعات قادرة على خلق بيئة آمنة، وشفافة، ومستقرة، يمكن أن تعيد الثقة بين الصحفي ونقابته، وبين الإعلام وجمهوره، وبين الدولة ومؤسساتها الإعلامية، مع تحديد واضح لمن هو الصحفي وتوسيع المظلة وبالتالي هذا يعزز من وجود نقابة قوية قادرة على حماية الهيئة العامة والارتقاء بالمهنة، ومواجهة الهم المعيشي.
في خضم التحديات الإقليمية المتسارعة، لا بد من التأكيد الصريح والواضح على أن “أمن الأردن خط أحمر”.. وهنا لا مجال للتأويل أو التساهل حين يتعلق الأمر باستقرار وطننا، ولا مهادنة مع من تسوّل له نفسه العبث بمكانة الدولة، أو الإساءة لمواقفها الوطنية، أو التشكيك بمسارها السياسي.
لقد دأب “المطبخ السياسي”، وعلى مدار عقود، على العمل بصمت وحكمة، واضعاً نصب عينيه المصلحة الوطنية العليا، بعيداً عن المزايدات والشعارات الفارغة، ولم يكن يوماً أسير ردود الأفعال، بل كان وما زال يقرأ المشهد الإقليمي والدولي بدقة، ويتعامل معه بتوازن قلّ نظيره، حفاظاً على الداخل الأردني وعلى استقرار الدولة ومؤسساتها.
وفي هذا السياق، يجب أن يكون واضحاً أن حرية الرأي والتعبير في الأردن مصانة بموجب الدستور والقوانين، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال القبول بأن تتحول هذه الحرية إلى ذريعة للفوضى أو وسيلة للتحريض أو الإساءة للمجتمع والدولة؛ فالدولة الأردنية لا تستهدف النشطاء، ولا تلاحق أصحاب الرأي، وإنما تتحرك وفق نصوص قانونية واضحة عندما تُرتكب أفعال مُجرّمة تهدد الأمن والسلم المجتمعي.
ولعل أخطر ما يمكن أن يواجه أي مجتمع هو محاولة بعض الجهات، مهما كان حجمها أو أهدافها، بث الفتنة أو ضرب الوحدة الوطنية أو التشكيك بمؤسسات الدولة، كما لا يمكن السكوت عن شرذمة صغيرة تسعى للإساءة إلى وطن بأكمله، فالتماسك المجتمعي هو درع الحماية الأول في وجه حملات التشويه، ومحاولات النيل من الأردن ووحدته واستقراره.
أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، فيكفي أن نستعرض تاريخ الأردن، قيادة وشعباً، لنفهم أن مواقف المملكة ثابتة وعروبية وأخوية، لا تقبل التبديل أو التراجع… وما يجري في فلسطين ليس جديداً، والأردن لم يكن يوماً على الهامش، بل في قلب الحدث، مدافعاً عن حقوق الفلسطينيين، رافضاً لكل أشكال الاحتلال والتهويد، لكن، ووسط كل هذه المعارك المصيرية، علينا أن نُبقي بوصلتنا الداخلية صلبة، وأعيننا مفتوحة على ما يُحاك ضد بلدنا.
أمننا ليس سلعة للمساومة، ولا مادة للتهديد، ومن يظن أنه قادر على زعزعة البلد أو تقويض استقراره، فهو واهم.. فهذا الوطن عصيٌّ على الانكسار، بوعيه الجمعي، وبقيادته الحكيمة، وبشعبه الذي لطالما التفت حول ثوابته الوطنية.. وليسمعها الجميع مرة أخرى؛ أمن الأردن خط أحمر.
في زمن تتسارع فيه الأمم نحو التميز العلمي والبحثي، يسطع نجم جامعة العلوم الإسلامية العالمية لتؤكد أن الريادة ليست حكراً على مؤسسات الغرب، بل هي ثمرة اجتهاد، وإخلاص، وإيمان بقدرة العقل العربي على الإبداع والتجديد؛ ففوز الجامعة بجائزة أفضل أطروحة دكتوراه في العالم العربي ليس مجرد خبر عابر؛ بل هو شهادة فخر وعنوان مرحلة جديدة في مسيرة التعليم العالي الأردني.
هذا التتويج المرموق، الذي جاء تتويجاً لمسيرة من العطاء الأكاديمي، يحمل في طياته دلالات عميقة؛ فهو يعكس، من جهة، مستوى النضج الأكاديمي الذي بلغته الجامعة، ويؤكد، من جهة أخرى، أن المؤسسات التعليمية الوطنية القادرة على الجمع بين الأصالة العلمية ومتطلبات العصر الحديث هي الأقدر على تحقيق التميز وسط التحديات المتزايدة في ميادين المعرفة.
لقد حققت جامعة العلوم الإسلامية العالمية هذا الإنجاز في منافسة علمية محتدمة ضمت جامعات ومؤسسات أكاديمية عريقة من مختلف أنحاء العالم العربي، مما يضاعف من قيمة هذا الفوز ومكانته، وليس أدل على جودة العمل الأكاديمي المقدم من نيله أعلى درجات التقدير من لجان تحكيم علمية مشهود لها بالكفاءة والصرامة المنهجية.
إن فوز الجامعة بهذه الجائزة يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن المستقبل الأكاديمي الوطني واعد متى ما توفرت له الإرادة المؤسسية، والرؤية الاستراتيجية، والبيئة الداعمة للباحثين، ويُعيد التأكيد على أن البحث العلمي يجب أن يحتل موقع الصدارة في أجنداتنا الوطنية باعتباره قاطرة التنمية وأساس النهضة.
إننا اليوم، إذ نحتفي بهذا الإنجاز، ندعو إلى أن يكون هذا الفوز بداية لمزيد من الاهتمام بالأبحاث العلمية الرصينة، ودعم الباحثين المبدعين، وتكريس ثقافة الابتكار في جامعاتنا، كما نؤكد على أهمية توفير البيئة المحفزة للطلبة والباحثين، بما يضمن استدامة التفوق، وتحقيق الإضافة النوعية في مسيرة الإنتاج المعرفي العالمي.
كل التحية والتقدير لجامعة العلوم الإسلامية العالمية، إدارة وأساتذة وطلبة، على هذا التتويج المستحق…. مبارك لهم هذا الإنجاز الذي لا يمثل فخراً للجامعة وحدها، بل هو فخر لكل أردني يؤمن بأن الأمة قادرة على استعادة مكانتها اللائقة بين الأمم عبر بوابة العلم والبحث والابتكار.
مبارك هذا الإنجاز، وللأمام دوماً
“خيط رفيع” ذلك الذي يفصل بين الحق المقدس في التعبير عن الرأي، والانفلات من عقال القانون، حيث تقوم هذه المعادلة على “توازن دقيق” بين حماية الحريات الفردية وضمان الأمن المجتمعي، وهو توازن لا يمكن تحقيقه إلا عبر منظومة قانونية متكاملة، وتفعيل مؤسسي حكيم، ومجتمع واعٍ بحقوقه وواجباته.
نص الدستور الأردني في المادة (15) على أن “تكفل الدولة حرية الرأي، ولكل أردني أن يعبر بحرية عن رأيه بالقول أو الكتابة أو التصوير وسائر وسائل التعبير، على أن لا يتجاوز حدود القانون”، وهذا النص يختصر فلسفة التشريع الأردني: حرية مضمونة، لكنها ليست مطلقة، وإنما مقيدة بالقانون.
لعل من أبرز التحديات التي تواجهنا اليوم، هو ذلك التداخل الكبير بين حرية التعبير والفوضى الرقمية، حيث أصبحت منصات التواصل الاجتماعي ساحة مفتوحة، تُستخدم لنشر خطاب الكراهية، والذم والقدح، واغتيال الشخصية، تحت غطاء “الرأي الحر”.
وهنا تظهر أهمية قوانين مثل قانون الجرائم الإلكترونية الذي يعاقب على أفعال مثل التشهير، ونشر الأخبار الكاذبة، وخطاب الكراهية، وكذلك قانون المطبوعات والنشر الذي يضع ضوابط على النشر الإلكتروني، وينظّم مسؤولية المواقع الإخبارية، رغم معارضته من مؤسسات المجتمع المدني والكثير من الناشطين.
وعلى أية حال، تلعب نقابة الصحفيين الأردنيين دوراً أساسياً – ينبغي أن يكون أكثر فاعلية – في هذا الإطار؛ فالنقابة لا ينبغي أن تكون فقط حامية لحقوق الصحفيين، بل ضابطة لممارساتهم المهنية، خصوصا في الفضاء الرقمي.
وعليه من المهم إطلاق برامج توعية وتدريب حول أخلاقيات النشر الرقمي، وحقوق الإنسان، والقوانين ذات الصلة، بما يعزز الفهم العميق للحدود القانونية والأخلاقية للتعبير، ومراجعة شروط العضوية والمساءلة؛ إذ يجب أن تُربط عضوية النقابة بمستوى من الالتزام بالمعايير الأخلاقية والمهنية، وتطبيق العقوبات النقابية عند الإخلال بها، كالإيقاف المؤقت أو الشطب في الحالات الجسيمة.
كما أننا اليوم بحاجة إلى وعي جمعي بأن حرية التعبير لا تعني التعدي، وأن القانون ليس خصماً للحريات بل حامٍ لها، وأن ما نحتاجه ليس مزيداً من القيود، بل مزيداً من النضج والمسؤولية في ممارسة هذه الحرية، بما يضمن أن تكون الكلمة أداة للبناء لا للهدم.
الحد الفاصل بين الحرية والقانون مسؤوليتنا جميعاً، دولة ومجتمعاً وأفراداً ومؤسسات، وأول ما نحتاجه هو ترسيخ ثقافة الحوار، ومأسسة الضوابط المهنية، وتجديد فهمنا لدور الإعلام في خدمة الحقيقة، لا في الانحياز للمصالح أو الوقوع في مستنقع التشهير والانفعال.
من المخجل أن يضيق صدر المسؤول بنقدٍ يُوجَّه للصالح العام، وكأن النقد جريمة أو انتقاص من مكانته، وكأنه ليس بوصلة للإصلاح أو أداة التغيير وحقٌ أصيل للمواطن، نص عليه الدستور الأردني في إطار حرية التعبير التي هي ليست مجرد شعارات تُرفع وقت الحاجة، بل دعامة أساسية في بناء الدول الحديثة، تُرسي مبادئ المساءلة وتعزز الشفافية وتضع المصلحة العامة فوق أي اعتبار شخصي.
وللأسف، فقد تعرضت شخصياً لهذا النوع من “ضيق صدر البعض” في الأسبوع الماضي، عندما كتبت على صفحتي الشخصية أن الإعلام كان يجب أن يكون أكثر قدرة على توفير المعلومة للمواطن فيما يتعلق بزيارة الملك عبدالله الثاني الأخيرة إلى واشنطن، فوجدت سيلاً من المعاتبات وأحياناً الكلام غير اللائق الذي يردني على رسائل صفحتي على “فيسبوك”، علماً أنني كنت حريصاً من ذلك على أن أدعو الصحافة الأردنية والإعلام الوطني لممارسة دوره الحقيقي، وأنا ابن الصحافة الأردنية لأكثر من 22 عاماً وقد تشرفت بتغطية أخبار الديوان الملكي العامر لمدة تزيد عن 9 سنوات خلال عملي في صحيفة الغد اليومية.
هذا الموقف ليس استثناءً، بل يعكس أزمة أعمق في فهم العلاقة بين المسؤول والمواطن، فالبعض يعتقد أن النقد تهديد، وأن الصحافة يجب أن تكون مجرد أداة للترويج الرسمي، لا عيناً ناقدة تراقب الأداء وتدافع عن حقوق الناس في المعرفة والمشاركة، وهذه العقلية هي التي تضعف المؤسسات، وتبعدها عن جوهر دورها الحقيقي في خدمة الوطن والمواطن.
إن المسؤول الذي يغضب من النقد أو يرد عليه بالاتهامات أو التخوين، إنما يعكس فهماً قاصراً لوظيفته العامة؛ فالإدارة الحكيمة لا ترفض النقد، بل تتقبله بصدر رحب، وتتعامل معه باعتباره فرصة للتصحيح والتطوير، والأمثلة على ذلك كثيرة في الدول المتقدمة، حيث يُنظر إلى الصحافة سواء التقليدية أو الحديثة كحليف للدولة في كشف مواطن الخلل وليست كعدو يجب تحجيمه أو تشويهه.
وفي الأردن، حيث يؤكد الدستور والقوانين على حرية الصحافة ودورها في تحقيق الشفافية والمساءلة، من المفترض أن يكون المسؤول هو أول من يرحب بالنقد البنّاء، لأنه في نهاية المطاف يخدم الصالح العام، لكن الواقع، للأسف، يعكس أحياناً ممارسات تتناقض مع هذه المبادئ، حيث يتم التعامل مع الإعلاميين وكأنهم خصوم، بدلاً من اعتبارهم شركاء في عملية التطوير.
إننا في أمسّ الحاجة إلى إعادة النظر في طريقة تعاطي المسؤولين مع النقد، والانتقال من عقلية الحساسية المفرطة إلى عقلية الانفتاح والتفاعل الإيجابي؛ فالدول لا تتقدم إلا بالحوار والمكاشفة والتصحيح المستمر، ومن يعتقد أن النقد يقلل من شأنه، فليتذكر أن أعظم القادة وأكثرهم احتراماً في التاريخ كانوا أول من يستمع إلى النقد ويستفيد منه، لأنهم يدركون أن الحكم الرشيد لا يقوم على إرضاء الذات، بل على خدمة الحقيقة والعدالة والمصلحة العامة.
في ظل التحولات السياسية المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط، برز موقف الأردن كحائط صد في مواجهة الضغوط الدولية الرامية إلى فرض حلول غير عادلة للقضية الفلسطينية، وقد جاء رفض جلالة الملك عبد الله الثاني لخطة تهجير الفلسطينيين من غزة كإعلان واضح بأن “الأردن لن يكون طرفاً في أي مشروع يتعارض مع حقوق الفلسطينيين أو يهدد استقرار المنطقة”، في وقت بات فيه احترام القانون الدولي ضرورة لا يمكن القفز عليها.
فمنذ إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن نيته “السيطرة” على غزة واقتراح نقل الفلسطينيين إلى الأردن ومصر، تصاعدت ردود الفعل الرافضة لهذا الطرح، الذي يتجاهل مبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان الأساسية، كما لا يمثل هذا المقترح حلاً للقضية الفلسطينية، بل هو محاولة لتفريغ غزة من سكانها وتحويل الأزمة من صراع سياسي إلى أزمة لاجئين جديدة، وهو ما يدرك الأردن خطورته تماماً.
ورغم الضغوط التي مارستها إدارة ترامب، والتي تضمنت التهديد بقطع المساعدات الأمريكية عن الأردن، جاء الرد الأردني واضحاً وحاسماً: “لن يكون الأردن طرفاً في أي خطة تهجير قسري، ولن يقبل بأي حل للقضية الفلسطينية لا يضمن حقوق الفلسطينيين في أرضهم”.
لم يكتفِ الأردن برفض التهجير على المستوى الدبلوماسي، بل ذهب إلى خطوة عملية تعزز هذا الموقف من خلال التشريع؛ فقد قدم البرلمان الأردني مشروع قانون جديد يحظر توطين الفلسطينيين في الأردن، وهو ما يعد خطوة قوية ومؤسسية تؤكد أن الموقف الأردني الرافض ليس مجرد تصريح سياسي، بل سياسة وطنية مدعومة بقوانين وتشريعات تمنع أي محاولة لفرض حلول غير عادلة على حساب الأردن، وهو اقتراح قدمه أ. د. ليث نصراوين، ولاقى تفاعلاً إيجابياً.
وعلى أي حال فإن مشروع القانون يحمل أهمية كبيرة لعدة أسباب أبرزها إغلاق الباب أمام أي ضغوط دولية مستقبلية؛ فوجود قانون يمنع التوطين يجعل من الصعب على أي حكومة أردنية حالية أو مستقبلية تغيير هذا الموقف، مما يحصّن الأردن قانونياً ضد أي محاولات لفرض واقع جديد، وإرسال رسالة واضحة إلى المجتمع الدولي بأن الأردن ملتزم بحماية القضية الفلسطينية، وأن أي محاولة لحل القضية عبر تهجير الفلسطينيين مرفوضة بشكل قاطع، فضلاً عن تعزيز السيادة الوطنية ووضع مصلحة الشعب الأردني فوق أي اعتبارات سياسية أو اقتصادية.
إن خطة التهجير تمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، الذي يحظر التهجير القسري للسكان تحت أي ظرف؛ فوفقاً لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، يعتبر ترحيل السكان قسراً من أراضيهم جريمة حرب، وبالتالي، فإن أي محاولة لفرض تهجير الفلسطينيين من غزة لا يمكن أن تُقرأ إلا باعتبارها خرقاً للقوانين الدولية التي تلزم جميع الدول باحترام حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
ورغم أن الولايات المتحدة، كدولة فاعلة في المجتمع الدولي، تتحمل مسؤولية العمل على إيجاد حلول عادلة للصراعات، فإن مقترحات ترامب الأخيرة تعكس تجاهلاً صريحاً لهذه المبادئ؛ فالقفز على القرارات الدولية والاتفاقيات الموقعة، ومحاولة فرض حلول أحادية الجانب، لا يخدم الاستقرار العالمي، بل يعمّق الأزمات ويزيد من التوترات في المنطقة.
إن رفض الأردن ليس مجرد موقف وطني، بل يعكس موقفاً عربياً أوسع، حيث أكدت العديد من الدول العربية رفضها لأي مشاريع تهدف إلى تهجير الفلسطينيين أو تصفية القضية الفلسطينية عبر حلول مجتزأة، ومن هنا، يفرض الموقف الأردني على الدول الأخرى مسؤولية تبني مواقف مماثلة لحماية حقوق الفلسطينيين، وعلى المستوى الدولي، سيضع هذا الرفض الإدارة الأمريكية في مواجهة معارضة أوسع، إذ إن أي محاولة لفرض حل غير عادل ستواجه برفض ليس فقط من الدول العربية، بل أيضاً من المجتمع الدولي، الذي لا يزال متمسكاً بحل الدولتين كإطار شرعي لإنهاء الصراع.
بالطبع، رفض الأردن خطوة في معركة دبلوماسية طويلة الأمد، حيث لا تزال هناك محاولات للضغط على الدول الإقليمية للقبول بحلول جزئية لا تعالج جذور القضية الفلسطينية، ومع ذلك، يظل الأردن ثابتاً في موقفه، مدركاً أن أي حل مستدام يجب أن يكون قائماً على العدالة وليس على فرض الأمر الواقع.
الرسالة الأردنية واضحة: القضية الفلسطينية لا يمكن حلها عبر التهجير القسري أو الحلول المؤقتة، بل من خلال تسوية عادلة تضمن للفلسطينيين حقوقهم المشروعة، وتحافظ على استقرار المنطقة، مع ضرورة احترام القانون الدولي وعدم تجاوزه وفق المصالح السياسية المؤقتة، كما أن مشروع القانون المقترح برفض التهجير يعزز هذا الموقف، ويؤكد أن الأردن ليس مجرد متلقٍ للضغوط، بل دولة ذات سيادة تضع مصالحها الوطنية ومبادئها العروبية فوق أي حسابات سياسية.