في ساحات الحرب العسكرية، تتعدد الاستراتيجيات بتعدد المراحل والظروف، من الهجوم المنظّم إلى الدفاع المنضبط، ومن الانسحاب التكتيكي إلى الإعاقة العملياتية ، غير أن هناك استراتيجية بالغة القسوة والتجرد من القيم الإنسانية، سُجّلت في صفحات التاريخ المظلم للبشرية، تُعرف باسم “استراتيجية التجويع حتى الموت” أو “الحصار المميت” ، ورغم تطور منظومات القانون الدولي والالتزامات الأخلاقية، تعود هذه الاستراتيجية مجددًا في القرن الحادي والعشرين لتُطبق حرفيًا على قطاع غزة، حيث تحوّل الحصار إلى أداة حرب قاتلة تستخدمها دولة تدّعي الحداثة والديمقراطية ضد شعب محاصر ومجتمع مدني بأكمله ، وهي دولة مزعومة مارقة متمردة على كل القوانين والأعراف والقيم والمبادئ السماوية والوضعية .
أولًا: المفهوم العسكري لاستراتيجية التجويع
تُعرَّف “استراتيجية التجويع” في العلم العسكري بأنها أسلوب من أساليب الحرب يهدف إلى إنهاك العدو ببطء عبر قطع الإمدادات الغذائية والطبية واللوجستية عنه، في ظل ضرب طوق حصار خانق، يفرضه المهاجم على منطقة محصّنة أو مدينة معزولة ، وعبر التاريخ، طبقت هذه الاستراتيجية في حصار المدن مثل حصار لينينغراد أو حصار سراييفو، وغالبًا ما تفضي إلى استسلام الطرف المُحاصَر بعد أن تنفد موارده أو تنهار معنوياته او تفرض الشروط عليه قسراً .
ثانيًا: الحصار على غزة.. ترجمة عملية لاستراتيجية التجويع
ما تقوم به قوات الاحتلال الإسرائيلي اليوم من تطويق كامل لقطاع غزة – بحرًا وبرًا – هو تطبيق ممنهج لاستراتيجية التجويع ، إذ يُغلق المعبر الحدودي الوحيد مع مصر (معبر رفح)، بينما تُحكم القوات الإسرائيلية السيطرة على الضلعين الشمالي والشرقي، وتُمنع المساعدات الإنسانية والطبية من الوصول، ويُجبر المدنيون على العيش في ظروف كارثية من انعدام الغذاء والماء والكهرباء، وسط دمار ممنهج للبنية التحتية.
ورغم التفوق العسكري الإسرائيلي من حيث الطيران والمدفعية والتقنيات الاستخباراتية، إلا أن كل العمليات البرية من شمال القطاع إلى وسطه وجنوبه لم تحقق الأهداف المعلنة، وأبرزها: القضاء على المقاومة، تحرير الأسرى، وتأمين المستوطنات الإسرائيلية. بل كانت المقاومة قادرة على التصدي وإيقاع خسائر كبيرة بصفوف القوات الإسرائيلية، ما دفع الاحتلال إلى تقليص نطاق المواجهة واللجوء إلى الحصار كخيار أقل تكلفة بشرية ومادية.
ثالثًا: أهداف الحصار ومحاولة كسر إرادة المقاومة
تكمن الأهداف الحقيقية لاستراتيجية الحصار فيما يلي:
1. فرض الاستسلام السياسي والميداني: إذ يسعى الاحتلال عبر خنق القطاع إلى دفع المقاومة إلى القبول بشروط تفاوض مذلّة لا تمثل إرادة الشعب الفلسطيني.
2. تعويض النقص البشري والمادي في صفوف الجيش الإسرائيلي: فبدلًا من نشر خمس فرق عسكرية أو أكثر داخل القطاع – وهو ما يتطلب مجهودًا هائلًا – تلجأ إسرائيل إلى الحصار لتقليص الحاجة للقوات والعمليات المباشرة.
3. قطع الإمدادات والمساندة الخارجية: يشمل ذلك كل أشكال الدعم، سواء كانت مساعدات إنسانية، طبية، أو حتى تضامن معنوي خارجي يمكن أن يخفف من آثار الحرب.
4. إبقاء المجتمع الدولي في حالة تبلّد: حيث تُمارس إسرائيل ضغوطًا على المعابر الإنسانية وتوظّف خطابًا أمنيًا مضللًا يبرر الحصار تحت ذريعة محاربة الدفاع عن النفس.
رابعًا: الخرق الفاضح لقوانين الحرب وأخلاقيات الصراع
تتناقض استراتيجية التجويع كليًا مع القوانين الدولية، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف الرابعة التي تحظر استهداف المدنيين وتجويعهم كأسلوب من أساليب الحرب ، كما تُعد هذه الاستراتيجية انتهاكًا صارخًا للمادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، والتي تنص على عدم جواز استخدام التجويع كسلاح ضد السكان المدنيين.
إن السكوت عن هذه الانتهاكات، وغض الطرف عن معاناة شعب بأكمله، يُفقد منظومة القيم مصداقيتها، ويفضح ازدواجية المعايير بين خطاب الحرية والديمقراطية من جهة، والممارسة الميدانية في فلسطين من جهة أخرى.
إن ما يحدث في غزة اليوم لا يمكن توصيفه إلا بأنه جريمة جماعية ترتكب بصمت عالمي مريب، تحت غطاء دبلوماسي هش وشعارات جوفاء. فاستراتيجية التجويع، التي لطالما دانها التاريخ، لا تزال تُمارس في القرن الحادي والعشرين بلا خجل، وعلى مرأى من العالم.
إن المجتمع الدولي – لا سيما الغرب ومن يدور بفلكهم – مدعويين لمراجعة موقفهم الأخلاقي، والوقوف أمام مرآة القيم التي تدّعي حمايتها ، لأن استمرار الصمت لن يجعل فقط من الاحتلال مرتكبا ًالجريمة، بل من العالم المتحضر شريك وشاهدزور على موت الضمير الإنساني.