في بيئة العمل المعاصرة، لم يعد كافيًا أن تُدار المؤسسات عبر أنظمة صارمة أو سياسات مكتوبة فحسب. فبين جدران المكاتب، وفي تفاصيل القرارات اليومية، تتشكّل قوى غير مرئية، غالبًا ما يكون لها تأثير أعمق مما يُعتقد.
من بين هذه القوى، تبرز الثقافة المؤسسية كأحد أكثر العوامل حسمًا وتأثيرًا. إنها البوصلة الخفية التي توجه سلوك الأفراد في غياب الإشراف المباشر.
فالثقافة المؤسسية لا تُختزل في الشعارات المعلّقة على الجدران، بل تتجلى فيما يُمارس يوميًا؛ في القرارات غير الرسمية، وفي طبيعة التفاعل بين الزملاء، وفي الطريقة التي يُنظر بها إلى الخطأ والنجاح.
إنها باختصار: الروح التي تسكن المؤسسة، وتمنحها هويتها الخاصة، حتى وإن تشابهت مع غيرها في الأنظمة والهياكل.
وكما علمتُ، فإن الحكومة الأردنية تعمل حاليًا على مشروع متكامل لتحسين الثقافة المؤسسية في مؤسساتها العامة، وذلك في إطار دعم خارطة تحديث القطاع العام، وقد تم تطوير إطار وطني شامل لمنظومة الثقافة المؤسسية، يُعنى بتحديد القيم والسلوكيات المرجوّة، وتعزيز الانسجام بين الأفراد والمؤسسات، وخلق بيئة عمل تدعم التميز والابتكار.
هذا التوجّه يعكس وعيًا متقدمًا بأهمية العنصر الثقافي في إنجاح أي عملية تحديث إداري، ويؤكد أن بناء مؤسسات قوية لا يتحقق فقط عبر الهيكلة أو التشريعات، بل يبدأ أولًا من إعادة تشكيل السلوك الجماعي والقيم التي تحكمه.
على الجانب الآخر، يأتي مفهوم “الندج”، المستمد من علم “البصائر السلوكية”، ليقدم بعدًا جديدًا ومختلفًا في توجيه السلوك داخل المؤسسات. فالندج لا يُجبر ولا يُرغم، بل “يدفع برفق”، ويُوجه السلوك نحو الأفضل من خلال تغييرات ذكية في طريقة عرض المعلومات، أو توقيت تقديم الخيارات، أو تصميم البيئات.
مثال بسيط على ذلك: إرسال رسالة تذكير بتسجيل الحضور مصاغة بلغة إيجابية في توقيت محدد يمكن أن يزيد من التزام الموظفين، أو عرض نسب المشاركة في البرامج التدريبية بطريقة تُبرز الملتزمين قد يشجع الآخرين على اللحاق بهم دون أي ضغط.
لكن القوة الحقيقية تظهر عندما تتكامل الثقافة المؤسسية مع تدخلات الندج. فالثقافة توفر الأرضية التي تُزرع فيها القيم، بينما يعمل الندج على تسريع نمو هذه القيم وتحويلها إلى سلوكيات ملموسة. عندما تُصمم تدخلات السلوك بما ينسجم مع ما هو سائد ومقبول داخل المؤسسة، يكون التأثير طويل الأمد وعميقًا. أما إذا طُبّق الندج دون وعي بثقافة المؤسسة، فقد يبدو تدخلاً غريبًا أو مصطنعًا لا يحقق أثرًا حقيقيًا.
هنا، تظهر مسؤولية فرق القيادة والموارد البشرية بشكل أكبر؛ إذ يقع على عاتقهم أن يفهموا النسق الثقافي داخل مؤسساتهم بعمق، وأن يستخدموا أدوات السلوك الذكية لتفعيل التغيير التدريجي، لا الفرض المفاجئ. فليس الهدف أن نفرض سلوكًا “صحيحًا” من وجهة نظر الإدارة، بل أن نُصمّم بيئة تجعل هذا السلوك هو الخيار الطبيعي والمحبذ من قِبل الموظف نفسه.
ولأن السلوك المؤسسي لا يُبنى دفعة واحدة، بل يتشكل عبر التكرار، والتحفيز، والانتماء، فإن العمل على تعزيز ثقافة الالتزام والانضباط عبر أدوات ذكية، كتصميم رسائل سلوكية مخصصة، أو تقليل مقاومة التغيير عبر تجريب تصميمات مختلفة للأنظمة الجديدة، أو رفع معدلات المشاركة في التطوير المهني عبر عرض التفاعل الجماعي كنموذج يُحتذى، كلها أمثلة على تدخلات بسيطة لكنها عميقة التأثير.
خلاصة القول، إن المؤسسات التي تتفوق ليست هي التي تفرض “الانضباط من الخارج”، بل التي “تُلهمه من الداخل”. ليست التي تُراقب كل تصرف، بل التي تصنع بيئة تجعل من التصرف الإيجابي هو القاعدة، لا الاستثناء. والسلوك المؤسسي الفعّال لا يُولد من التعليمات فقط، بل من “الثقافة الذكية”، والتصميم السلوكي الدقيق، والقيادة التي تفهم الإنسان كما تفهم النظام.
في عالم يتغير باستمرار، يبقى السلوك المؤسسي الفعّال هو أقصر الطرق لبناء مؤسسات قادرة على مواكبة المستقبل، واستباق التحديات، وصناعة الأثر.